Sabtu, 29 Januari 2011

القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ

القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ للعلامة الشيخ محمَّد مفتاح بن صالح التجاني الإبراهيمي

بمناسبة حلول شهر المولد النبوي الشريف فإنه يسعدنا أن نقدم لكم كتاب "القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ" للعلامة الشيخ محمد مفتاح ولد صالح التجاني الإبراهيمي -حفظه الله ورعاه-:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ...الذي بدأ بأخذ العهد لنفسه على أرواح جميع بني آدم في عالم الذَّرِّ وأشهدهم على أنفُسهم واقرَّهم على اعتقاد الربوبية المطلقة له فقال جلّ من قائل: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِِّّيَّاتِهمِْْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) ، وثَنَّى بأخذ الميثاق لنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء الذين هم صفوة خلقه فقال جلّ من قائل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ َءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُــو< أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ( وصلى الله على النبي القائل: « بُعِثْتُ من خير قرون بني آدم قَرنًا قرنًا حتى بُعثتُ من القرن الذي كنتُ فيه» رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

والقائل:« إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» رواه مسلم في صحيحه،عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه .

وبعد فإنّه لما صار كلُّ من هبَّ ودبَّ من جهلة الحشويين يُبدِّع ويُفسِّق جماهير المسلمين المحتفلين بمولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم سَرَّحتُ سَوامَ فكري في أدلة هؤلاء وهؤلاء فاستخلصتُ بعد تحقيق المَناط وسبر وتقسيم الأدلة على الأنماط أنّ حُجةَ المانعين لهذا العمل مبنيةٌ على عمومات ألفاظ وردت في أحاديث ذم البدع والمحدثات كحديث الشيخين عن عائشة مرفوعا: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وحديث البخاري عن ابن مسعود موقوفا ومسلم والنسائي واللفظ له عن جابر مرفوعا« إنّ أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وحديث أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والبغوي والحاكم والطبراني وتمام الرازي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعا « أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبَشِيًّا فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة », وما في معنى هذه الأحاديث وقد جهل هؤلاء أو تجاهلوا أن عموم هذه الأحاديث مُخَصَّصٌ بحديث مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا « من سنّ في الإسلام سنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن يُنقص من أجورهم شيءٌ ... الحديث» وبحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا يَنقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا ... » قال الإمام النوويُّ في شرح مسلم ج6 ص 465 عند شرحه للحديث الأوّل ما لفظه: قوله صلى الله عليه وسلم «كل بدعة ضلالة» هذا عامٌّ مَخْصُوصٌ والمراد غالب البدع قال أهل اللغة : هي كلُّ شيءٍ عُمِلَ على غير مثالٍ سابقٍ قال العلماء: البدعةُ خمسة أقسام واجبةٌ ومندوبةٌ ومحرَّمةٌ ومكروهةٌ ومباحةٌ، فمن الواجبة: نظمُ أدلَّة المتكلِّمين في الردِّ على المَلاحدة والمبتدعين وشِبْهِ ذلك، ومن المندوبة: تصنيفُ الكُتُبِ وبناءُ المدارس والرُّبَطِ وغير ذلك قال : فإذا عُرِف ما ذكرتُه عُلِمَ أنّ الحديثَ من الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة ويؤكِّدُ ما قلناه قولُ عمر: نعمت البدعة. ولا يمنع كونَ الحديث عامًّا مخصوصًا قولُه كل بدعةٍ مؤكِّدًا ب (كل) بل يدخله التَّخْصِيصُ مع ذلك كقوله تعالى ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ(.

وقال أيضاج7 ص86 عند شرحه للحديث الثاني ما لفظه: وفي هذا الحديث تَخْصِيصُ قوله صلى الله عليه وسلم: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة » وأَنَّ المرادَ به المحدثاتُ الباطلةُ والبدعُ المذمومةُ. قلت: وممن صرح أيضا بِتَخْصِيصِ عموماتِ هذه الأحاديث الأُبِّيُّ في شرح مسلم ج3 ص23 والسنوسي في الحاشية عليه والسيوطي في تعليقه على سنن النسائي ج3 ص82 والصنعاني في شرح بلوغ المرام ج 2 ص103 وابنُ عَلاَّنَ في شرح رياض الصالحين ج1 ص 439 عند شروحهم لحديث جابر وكذا الكرماني في شرح البخاري ج9 ص154 عند شرحه لحديث ابن مسعود وكذا الزرقاني في شرح الموطإ ج 2 ص238 عند شرحه لقول عمر " نعمت البدعة هذه".

والحاصل: أنّ جمهورَ العلماء اتفقوا على أنّ البدع والمحدثات منقسمةٌ إلى قسمين: ممدوحٌ ومذمومٌ خلافًا لابن تيمية والشاطبي, قال الحافظُ بنُ حجرٍ في فتح الباري ج13 ص254 : قال الشافعي: البدعة بدعتان محمودةٌ ومذمومةٌ فما وافق السنة فهو محمودٌ وما خالفها فهو مذمومٌ. قال ابن حجر: وقد جاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال : المحدثاتُ ضربان ما أُحدث يخالف كتابًا أو سُنةً أو أثَرًا أو إجماعًا فهذه بدعةُ الضلال وما أُحدِث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهذه محدثةٌ غيرُ مذمومة . قلت: وقد احتجَّ الشافعيُّ لهذا بما في الموطإ وصحيح البخاري من قول عمر رضي الله عنه "نعمت البدعة هذه" قاله ابن رجب الحنبليُّ في جامع العلوم والحكم ص266 وقال المنذريُّ كما في تحفة الأحوذي ج7 ص438 وكذا ابنُ دقيق العيد في شرح الأربعين النووية ص75 وابنُ عَلاَّن في شرح رياض الصالحين ج1 ص415 وابنُ العربي في عارضة الأحوذي ج10 ص147 واللفظ له : اعلموا علَّمكم الله أنّ المُحدَثَ على قسمين مُحدَثٌ ليس له أصلٌ إلا الشَّهوةُ والعملُ بمقتضى الإرادة فهذا باطلٌ قطعًا, ومُحدَثٌ بحمل النظير على النظير فهذه سُنةُ الخلفاء والأئمة الفضلاء, وليس المحدَثُ والبدعةُ مذمومًا لِلَفْظِ مُحدَثٍ وبِدعةٍ ولا لمعناها, فقد قال تعالى: ) مَا يَأْتِــيهِم مِّنْ ذِكْــــرٍ مِّـن رَّ بِّهِمْ مُحْدَثٍ (، وقال عمر: نعمت البدعة هذه، وإنما يُذَمُّ من البدعة ما خالف السنّة ويُذَمُّ من المُحدَثِ ما دعا إلى الضلال. هذه عبارته. وقال ابنُ حجر في الفتح ج13 ص253 عند شرحه لحديث ابن مسعود ما لفظه : والمُحدَثاتُ بفتح الدال جمع مُحدَثةٍ ما أُحْدِثَ وليس له أصلٌ في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعةً وما كان له أصلٌ يدل عليه الشرعُ فليس ببدعةٍ, قال: والمراد بقوله: كل بدعةٍ ضلالةٌ ما أُحْدِثَ ولا دليل له من الشرع بطريقٍ خاصٍّ ولا عامٍّ. وقال في الفتح أيضاً ج 4 ص 254 عند شرحه لقول عمر: " نعمت البدعة هذه" ما لفظه: والتحقيق أنّها إن كانت مما يندرج تحت مُستحسَنٍ في الشرع فهي حسنةٌ وإن كانت مما يندرج تحت مُستقبَحٍ في الشرع فهي مُستقبَحَةٌ وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأقسام الخمسة. قلت: وبنحو هذا صرح أيضًا كلٌّ من الكرماني ج9 ص154 والعيني ج11 ص126 والقسطلاني ج3 ص426 في شروحهم لصحيح البخاري وكذا السيوطي ج1 ص137 والزرقاني ج1 ص238 في شرحيهما للموطأ وكذا الصنعاني في شرح بلوغ المرام ج 2 ص104 وابن عَلاَّنَ في شرح رياض الصالحين ج1 ص416 والعزُّ بنُ عبد السلام في قواعد الأحكام ج2 ص172 والقرافي في الذخيرة ج13 ص234 والشبرخيتي في شرح الأربعين النووية ص 159؛ 236 . هذا وقد وقفتُ على مقالٍ للحَدَّادِ المسَمَّى أحمد بن الكوري من موالي قبيلة السادة الشرفاء العلويين الموريتانيين نُشِرَ في جريدة القلم الموريتانية العدد213 الصادر بتاريخ 3 يونيو 2002 ذكَر فيه أنّ ابنَ كثيرٍ ذكَر في تاريخه : البداية والنهاية أن أوَّل من احتفل بالمولد النبوي الفاطميون. وهذا الذي عزا لتاريخ ابن كثير ليس فيه إطلاقًا, و الفاطميون كانوا يحتفلون بموالد كثيرة ولم يوافقهم أهل السنة على شيء منها إلا على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لكثرة ما اشتمل عليه من معاني تشهد لصحَّتها نصوصُ الشرع.

ومن أوائل من احتفل به من علماء أهل السنة من أهل المشرق الشيخُ الصالحُ عمر المَلاَّ الموصلي المتوفى سنة 570 فقد ذكر الحافظ أبو شامة في حوادث سنة 566 من كتاب الروضتين في أخبار الدولتين أنّ الشيخ عمر المَلاَّ هذا كان رجلاً صالحًا وكان ذا معرفةٍ بأحكام القرآن والأحاديث النبوية وكان العلماءُ والفقهاءُ والملوكُ والأمراءُ يزورونه في زاويته ويتبركون بهِمَّتِهِ ويَتَيَمَّنُونَ ببركته، وكانت له كلَّ سنة دعوةٌ يحتفل بها في أيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر فيها صاحبُ الموصل ويحضر العلماءُ والشعراءُ وينشدون مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: قلت: ومن أوائل من احتفل بالمولد من علماء المغرب الفقيهان العالمان الأميران أبو العباس وابنه أبو القاسم العزفيان السَّبْتِيان وهما من الأئمة كما قال صاحب المعيار ج11 ص379. فأما الأول فقد قال عنه ابن حجر في تبصير المنتبه ج1 ص253: كان زاهدًا إمامًا مفنّنًا مُفْتِيًّا ألَّفَ كتاب المولد وجوّده مات سنة 633. وأمّا الثاني فقد قال عنه الزركلي في الأعلام ج5 ص223: كان فقيها فاضلا, له نظم أكمل الدر المنظم , في مولد النبي المعظّم من تأليف أبيه أبى العباس بن أحمد. مات سنة 677. قلت: وقد ذكر السيوطي في الحاوي للفتاوي ج1 ص 222: أن أوَّل من أحدث الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف صاحبُ إِرْبَلْ الملك المظفر أبو سعيد كُوكْبُرِي المتوفى سنة 633. فإن كان يعني بذلك أول من احتفل به من الملوك السُّنِّيينَ فذلك مسلَّمٌ له وإن كان يعني بذلك أول من أحتفل به مطلقا أو من احتفل به من علماء المسلمين فقد ورد في فتاوي الأزهر ج8 ص 255: عن المفتي الشيخ عطية صقر: أنّه كان يُحتفَل به بمصر فيما قبل سنة 488 . وتقدم أيضا أنّ الشيخ عمر المَلاَّ كان يحتفل به بالموصل قبل وفاته في سنة 570, وكُوكْبُرِي هذا إنما كان يحتفل به في مدينة إرْبَلْ بعد أن ولاَّه عليها صلاح الدين الأيوبي سنة 586 أي بعد وفاة الشيخ عمرا لمَلاَّ بستة عشر سنة. هذا وكنتُ قد نفيتُ في نُسخةٍ سابقةٍ من هذا البحثِ كونَ الفاطميين هُمْ أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف وذكرتُ أنَّ أولَ من احتفل به هو الشيخ عمر المَلاَّ ثمَّ وقفتُ الآنَ على ما ورد في فتوى الأزهر السابقة من أنّه كان يُحتفَل به بمصر فيما قبل سنة 488، فأثبتُّهُ هنا، وحذفْتُ النَّفْيَ المذكور، فعلى من لديه نُسخةٌ قديمةٌ من هذا البحث أن يَرجِعَ إلى هذه النُّسخةِ فَهْيَ النُّسخةُ الصَّحيحةُ المُعتَمَدَةُ. ثم إنّ عمل المولد هذا وإن لم يكن قد عُمِلَ به في القرون المُزَكَّّاةِ فإنَّ جمهورَ المتأخرين من علماء الأمة قد دأب على العمل به واستحسانه وحصل شبهُ إجماع عليه من غير نكيرٍ مدَّةً من الزمن حتى جاء ابنُ تيمية والفاكهانيُّ وابنُ الحاج في القرن السابع الهجري فأنكر الأوَّلانِ أصلَ عمله وأنكر الثالثُ أُمورًا رآها تَحدُثُ في المولد في زمنه ولم يُنكِرْ أصلَ عمله. فأما ابن تيمية فإن العلماء لم يُعِيرُوا اهتمامًا لإنكاره عمل المولد لما هو معروف به عندهم من المُجازَفاتِ. وأمَّا الفاكهانيُّ فقد كتب في منعه فتوى قصيرةً لا تبلغ كُرَّاستين وهي عاريةٌ من الدليل الشرعي المُتَنَزِّلِ على القصد حيث لم يذكر فيها من القرآن إلا آية ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) وآية (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ولم يذكر فيها من الحديث إلا حديث « بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعود غريبًا», ولا يخفى أنّ هاتين الآتين والحديث لا دليل في شيء منهم على منع عمل المولد, ولو وجد الفاكهانيُّ دليلاًً شرعِيًّا مُتَنَزِّلاً على قصده لأتى به لأنّه في مقام الاحتجاج على المنع وما سوى هاتين الآتين والحديث من كلامه مجرد آراء له غير واردة في محلها وقد أتقن السيوطي بيان بطلانها حيث ساق الفتوى المذكورة بحروفها في الحاوي للفتاوى ج1ص223-224 ثمّ ردها حرفا حرفا وممَّا قال في ردِّهَا: أمّا قولُه " لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة" فيقال عليه: نفيُ العلم لا يلزم منه نفيُ الوجود وقد استخرج له إمامُ الحُفَّاظِ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلاً من السنة واستخرجتُ أنا له أصلاً ثانيا وسيأتي ذكرهما بعد هذا. وقوله: " بل هو بدعةٌ أحدثها البطالون إلى قوله ولا العلماء المتدينون" يقال عليه : قد تقدم أنّه أحدثه ملكٌ عادلٌ عالمٌ وقصد به التقرب إلى الله تعالى وحضر عنده فيه العلماءُ والصلحاءُ من غير نكيرٍ منهم وارتضاه ابنُ دِحية وصنف له من أجله كتابًا, فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه. قلت: وقد قدمـتُ أنا أيضًا أنّ الملك المذكور سبقه إلى هذا العمل من أهل السنة رجلٌ صالحٌ عارفٌ بأحكام القرآن والحديث وحضر عنده فيه العلماءُ من غير نكيرٍ منهم , وكان ذلك تحت إمرةِ مَلِكٍ سُنِّيٍّ مُتَّبِعٍ للآثار النبوية صحيحِ الاعتقاد واقفٍ عند حدود الشرع
. وأما ابن الحاج فقد أنكر أمورًا رآها تَحدُث في الاحتفال بالمولد في زمنه ولم يُنكِرْ أصلَ عمله فقد قال في المدخل ج2 ص2-3 بعد أن أنكر استعمال آلة الطرب في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ما نصه : فكان يجبُ أن يُزاد فيه ـ يعنى شهر المولد ـ من العبادات والخير شُكرًا للمولى سبحانه وتعالى على ما أولانا من هذه النِّعَم العظيمة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم بأمته ورفقه بهم لأنَّه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يُفرَض على أمّته رحمةً منه بهم كما وصفه المولى سبحانه وتعالى في كتابه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ), لكن أشار صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله صلى الله عليه وسلم للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين فقال له صلى الله عليه وسلم: «ذلك يوم ولدت فيه», فتشريف هذا اليوم متضمِّنٌ لتشريف هذا الشهر الذي وُلد فيه فينبغي أن نحترمَه حق الاحترام ونُفضِّله بما فضَّل الله به الأشهر الفاضلة وهذا منها لقوله صلى الله عليه وسلم أنا سيِّدُ ولد آدم ولا فخر ولقوله صلى الله عليه وسلم آدمُ ومن دونه تحت لوائي. قال السيوطي في الحاوي للفتاوي ج1 ص228 بعد أن نقل الكلامَ المتقدِّمَ وغيرَه من كلام ابن الحاج ما نصُّه : وحاصلُ ما ذكره أنَّه لم يذُمَّ المولدَ بل ذَمَّ ما يحتوى عليه من المحرَّماتِ والمُنكَراتِ, وأولُ كلامه صريحٌ في أنَّه ينبغي أن يُخَصَّ هذا الشهرُ بزيادة فعل البرِّ وكثرةِ الخيراتِ والصدقاتِ وغيرِ ذلك من وجوه القُرُباتِ, وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه, فإنَّه ليس فيه شيءٌ سوى قراء ة القرآن وإطعام الطعام وذلك خيرٌ وبِرٌّ وقُربةٌ, وأمّا قوله آخِرًا إنّه بدعةٌ فإمَّا أن يكون مُناقِضًا لما تقدم أو يُحمَل على أنّه بدعةٌ حسنةٌ كما تقدَّم تقريره في صدر الكتاب, أو يُحمَل على أنَّ فعلَ ذلك خيرٌ والبدعةُ منه نِيَّةُ المولد كما أشار إليه بقوله: فهو بدعةٌ بنفس نيَّته فقط، وبقوله: ولم يُنقل عن أحد منهم أنَّه نوى المولد, فظاهرُ هذا الكلام أنَّه كره أن ينوى به المولدَ فَقَطْ ولم يَكرَهْ عمل الطعام ودُعاء الإخوان إليه, وهذا إذا حُقِّقَ النظرُ لا يجتمع مع أول كلامه لأنَّه حثَّ فيه على زيادة فعل البِرِّ, وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى, إِذْ أوجد في هذا الشهر الشريف سيدَ المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا هو معنى نيَّة المولد فكيف يَذُمَّ هذا القدر مع الحثِّ عليه أوَّلاً, وأمَّا مجرَّد فعل البِرِّ وما ذكر معه من غير نيَّة أصلاً فإنَّه لا يكاد يُتَصَوَّرُ، ولو تُصُوِّرَ لم يكن عبادةً ولا ثوابَ فيه, إذ لا عمل إلا بنيَّةٍ، ولا نيَّةَ هنا إلاَّ الشكرُ لله تعالى على وِلادةِ هذا النبي الكريم في هذا الشهر الشريف, وهذا معنى نِيَّةِ المولد فهي نِيَّةٌ مُستحسَنةٌ بلا شكٍّ فتأمَّلْ. قلت: ومن الأكاذيب الواضحة ما قاله صاحبُ المقال المتقدِّمِ في جريدة القلم في عددها المذكور ولفظه: قال أبو الوليد الباجي إمام المالكية: "لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتابٍ ولا سنّةٍ ولا ينقل عمله عن أحدٍ من علماء الأمّة الذين هم القدوة في الدين بل هذا بدعةٌ أحدثها البطّالون". قلت: هذا ليس من كلام الباجي إطلاقًا وإنّما هو من كلام الفاكهاني المذكور آنفا دلَّس فيه هذا الجاهل المتنطع وتعمَّد عزوَهُ للباجي كَذِبًا لكي يعطيه دَفْعًا أكبرَ عند السامع حيثُ إنَّ الباجي إمامٌ حافظٌ فقيهٌ أُصوليٌّ جدليٌّ و الفاكهانيُّ فقيهٌ مشارِكٌ متأخّرٌ عن الباجي بنحو قرنين ونصفٍ من الزمن. ثمّ إنّ هذا المتنطع مع تدليسه في هذا الكلام تصرَّف فيه وحذف منه البعض وهو قول الفاكهاني " المتمسكون بآثار المتقدمين" بعد قوله: " ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين". وأما حُجَّةُ القائمين بإحياء ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم من القرآن فمنها: قوله تعالى ( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أ نــبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) وقوله تعالى ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَ يَّــمِ اللَّهِ ) وقوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وقوله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْر مِمَّا يَجْمَعُونَ ) وقوله تعالى: ( وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) وقوله تعالى: ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) وقوله تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا). ففي الآية الأولى: دليلٌ على أنَّ الاستماع لقصص أنباء الرسل يثبِّتُ اللهُ به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم فنكون نحن أحوج إلى تثبيت أفئدتنا على الإيمان به وترسيخ محبته في قلوبنا بما يُقَصُّ علينا في موسم مولده المبارك من معجزاته وفضائله صلى الله عليه وسلم. وفي الآية الثانية: الأمر بتذكير المؤمنين بأيام الله " وأيامُ الله نعماؤُهُ وبلاؤُهُ" كما في الصحيحين عن ابن عبّاس مرفوعًا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظمُ نعمةٍ أنعم الله بها على المؤمنين، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ )، ومع ذلك هو البلاء على الكافرين من طريق النظر لأنّ الله جعل تعذيبَهم معلَّقًا على بعثته صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). وفي الآية الثالثة: دليل على أنّه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقد أخرج الحاكم في المستدرك وصحّح إسناده وأقرّه الذهبي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «يا أيّها الناس إنّما أنا رحمةٌ مهداةٌ». وفي الآية الرابعة: الأمر بالفرح بفضل الله وبرحمته فيكون الفرح بمولده صلى الله عليه وسلم مأمورًا به شرعًا بهذا الاعتبار لأنّه فضلٌ من الله على المؤمنين ورحمةٌ منه لهم وقد جعل الله ظهور ما أمده الله به من المعجزاتِ في عالَمِ الغيب مَنوطًا بظهور جسمه الشريف في عالَمِ الشهادة، ولا شكَّ أنَّ الفرح بمعجزةٍ واحدةٍ على انفرادها من أحسن مقاصد الشرع لدلالته على كمال الإيمان بمن ظهرت على يديه من الأنبياء فكيف بنا إن كان فرحُنا بظهور جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم الجامع لجميع المعجزات المتفرقة في الأنبياء. وفي الآية الخامسة: أنَّ عيسى عليه السلام بشَّر به صلى الله عليه وسلم، وقد جاء فيما رواه أحمد في المسند ج4 ص127 والطبراني والبزَّار وابن حبَّان وصحّحه والبيهقي في الدلائل والحاكم في المستدرك ج2 ص600 وصحّح إسناده وأقرّه الذهبي كلّهم عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «إني عند الله خاتم النبيئين وإنّ آدم لمنجدلٌ في طينته وسأخبركم عن ذلك دعوةُ أبي إبراهيم وبشارةُ عيسى بي ورؤيا أمِّي التي رأت وكذلك أمّهات النبيئين يرين وإنَّ أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورًا أضاء ت له قصورُ الشام». وفي الآيتين السادسة والسابعة: أنّ الله سلَّم على بعض أنبيائه في أيَّام مواليدهم وأيَّام موتهم وأيَّام بعثهم وما ذلك إلاّ من تعظيمه لشأنهم في تلك الأحوال وتعظيمه لشأن تلك الأيام ويدل على صحة هذا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تكلَّم على فضائل يوم الجمعة بدأ بذكر فضيلة خَلْقِ آدم فيه -كما في صحيح مسلم- فقال: «أفضلُ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خُلقَ آدم »، فدلَّ هذا الحديثُ على أنَّ أفضليةَ يومِ الجُمُعةِ حصلَتْ له بالدرجة الأولى بخَلْقِ آدم فيه. وفي صحيح مسلم أيضا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال « فيه ولدت وفيه أُنزِلَ علي »، فبدأ بذكر فضيلة مولده صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم ثمّ ثنَّى بذكر فضيلة نزول القرآن عليه فيه وفي هذا الحديث أنّ الله فضَّلَ يوم الاثنين لكونه يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اختَصَّ يومَ مولده ببعض العباداتِ وقد أخرج الحاكم في مستدركه وصحّحه ووافقه الذهبي أنَّ العبَّاسَ بنَ عبد المطلب رضي الله عنه امتدح النبي صلى الله عليه وسلم بقطعة قال فيها: وأنت لَمَّا وُلدت أشرقت الأَرْ= = ض وضاء ت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي الـنـْ = = نُـور وسُبْلِ الرشاد نخترق. وقال حسان بن ثابت في إحدى قصائده التي يرثي بها النبي صلى الله عليه وسلم كما في تاريخ بن كثير ج5 ص280: وبالجمرة الكبرى له ثَمّ أَوْحَشَتْ = = ديارٌ وعَرْ صاتٌ وربعٌ ومولدُ وفي دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص 120 والدلائل لأبي نعيم ص96 وسيرة بن هشام ج1 ص11 وتاريخ الطبري ج3 ص131 أنَّّه صلى الله عليه وسلم لمَّا وُلِدَ ارتجَّ إيوانُ كسرى وسقطت منه أربعَ عشرةَ شُرْفَةً من شُرَفِهِ وخمدت نارُ فارسَ ولم تخمد قبل ذلك بألفِ عامٍ وغاضت بحيرةُ سَاوَةَ. وقال الحافظ ابن كثير في كتابه مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ص 52 بعد كلامٍ مانصّه : والمقصود الآن أنّ ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ليلةً شريفةً عظيمةً مباركةً سعيدةً على المؤمنين طاهرةً ظاهرةَ الأنوار جليلةَ المِقدَارِ أبْرَزَ الله فيها الجوهرةَ المصونةَ المكنونةَ التي لم تزل أنوارُها مُنتقِلَةً من كل صُلبٍ شريفٍ إلى بطنٍ طاهرٍ عفيفٍ من نكاحٍ لا من سِفاحٍ من لَدُنْ آدمَ أبي البشر إلى عبد الله بن عبد المطلب ومنه إلى آمنةَ بنت وهبٍ الزهرية فولدته في هذه الليلة الشريفة المنيفة فظهر له من الأنوار الحسِّيَّةِ والمعنوية ما بَهَرَ العقولَ والأبصارَ كما شهدت بذلك الأحاديثُ والأخبارُ عند العلماء الأخيار، هذه عبارته. وأمّا أدلَّةُ عمل المولد الشريف من السنة فمنها ما ذكره السيوطي في الحاوي للفتاوي ج1ص229 -230، فقال ما لفظه: وقد سُئل شيخُ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصُّه: أصلُ عمل المولد بدعةٌ لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى ولكنَّها مع ذلك قد اشتملت على محاسنَ وضدَّها فمن تحرَّى المحاسن وتجنَّبَ ضِدَّهَا كان بدعةً حسنةً وإلا فلا، قال وقد ظهر لي تخريجُها على أصلٍ ثابتٍ وهو ما ثبت في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قدِمَ المدينة فوجد اليهودَ يصومون يومَ عاشوراءَ فسألهم، فقالوا: "هو يومٌ أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى". فيُستفادُ منه فعلُ الشكر لله على ما منَّ به في يومٍ معيَّنٍ من إسداء نعمةٍ أو دفع نقمةٍ ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كلِّ سنةٍ، والشكرُ لله يحصُـلُ بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيُّ نعمةٍ أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ نبيّ الرحمة في ذلك اليوم؟ وعلى هذا فينبغي أن يُتحرى اليومُ بعينه حتى يُطابق قِصَّةَ موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يُلاحظ ذلك لا يبالي بعملِ المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قومٌ فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلَّق بأصل عمله. وأما ما يُعمَلُ فيه فينبغي أن يُقتصَر فيه على ما يُفْهِمُ الشكرَ لله تعالى من نحو ما تقدَّم ذكرُه من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيءٍ من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعملِ للآخرة، وأما ما يَتْبعُ ذلك من السَّماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيُمنَعُ وكذا ما كان خلاف الأولى. هذه عبارة الحافظ ابن حجر ثمّ قال: السيوطي عقبها: " قلت: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة مع أنَّه قد ورد أنَّ جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيُجعل ذلك على أنَّ الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارٌ للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعٌ لأمَّته كما كان يصلِّي على نفسه لذلك فَيُستَحبُّ لنا أيضًا إظهارُ الشكر بمولده بالاجتماعِ وإطعامِ الطعامِ ونحوِ ذلك من وجوهِ القُرُباتِ وإظهار المَسرَّاتِ، هذه عبارة السيوطي. قلت: وقد ظهر لي أنا تخريجُ عملِ المولد على أصلٍ ثالثٍ وهو ما ثبت في الصحيحين: " عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قُباءَ كل سَبْتٍ راكبًا وماشيًّا". قال ابن حجر في الفتح ج3 ص69 ما لفظه: وفي هذا الحديث على اختلاف طرقه دلالةٌ على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك.

وقال القسطلاني في المواهب اللدنية ج1 ص261 ما لفظه: ولا زال أهلُ الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه الصلاة والسلام ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويُظهرون السرور ويزيدون في المَبرَّاتِ ويعتنون بقراء ة مولده الكريم ويَظْهَرُ عليهم من بركاته كلُّ فضلٍ عميمٍ. هذا وبعضُ المتنطِّعين اليوم يقولون إنّ من احتفل بميلاده صلى الله عليه وسلم يوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل فقد احتفل بتاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم أيضا. والحقيقة أن القول باتِّفاق تاريخ المولد والوفاة قولٌ باطلٌ ؛ بل تاريخهما متغايرٌ تغايرًا يُثبته ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ ، قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عًلًيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، قال عمر: « قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة». قلت: وبناء على هذا الحديث الصّحيح : فإنه لا شك في نزول الآية الكريمة يوم:( الجمعة 9 من ذي الحجة)، كما أنّه لا خلاف عند العلماء في وفاته صلى الله عليه وسلم ( في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول)، وكما لا خلاف حسابيًّا في استحالة موافقة(12 ربيع الأول) ليوم الاثنين(يوم وفاته صلى الله عليه وسلم )، لأن أيَّام الاثنين الأوائل من ربيع الأوّل الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم توافق(6 و13) منه على افتراض كمال كلٍّ من شهر ذي الحجة ومحرم وصفر:(30 يوما)؛ وتوافق(7 و14) منه، على افتراض كمال اثنين من هذه الأشهر، وتوافق(1 و8 و15) منه، على افتراض كمال أحدها. وتوافق (2 و9 و16) منه، على افتراض نقصان الأشهر الثلاثة جميعا: (29 يوما). وعليه يستحيل أن يكون ثاني عشر ربيع الأول من العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم غير يوم الأحد أو السبت أو الجمعة أو الخميس. ولا توجد صورة أخرى تحتمل كونه يوم الاثنين. قلت: وبجميع ما تقدم يتبين بجلاءٍ لكلِّ منصفٍ يعلم مقاصد الشرع أنّ عمل المولد الشريف مخرَّجٌ على أُصولٍ ثابتةٍ من كتاب الله وصحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنّ إحياء ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ويومِها كلَّ سنةٍ بصالح الأعمال شكرًا لله على نعمته ببروز جسم سيِّدِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مع مُراعاةِ الحدود الشرعية في هذا العمل من أفضل القُرُبَاتِ لما فيه من التَّعرُّضِ لنفحاتِ الرَّبِّ في فاضلِ الأوقاتِ، ولكون هذا العمل مشتمل على كثير من المعاني التي نصّت عليها نصوص الشّريعة وشهدت بصحّتها؛ مثل: ذكر الله تعالى وتلاوة ما تيسّر من القرآن والدّعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , وذكر بعض معجزاته وصفاته وفضائله صلى الله عليه وسلم؛ وإنشاء وإنشاد ما تيسر من مدائحه صلى الله عليه وسلم. وإنفاق ما تيسّر من المال، فهذه الأعمال مطلوبةٌ شرعاً في أغلب أوقات كلّ مسلمٍ ولا يمكن بحالٍ من الأحوال استثناء زمن مولده صلى الله عليه وسلم من أوقات مطلوبيتها، ثمّ إنّ العلماء الذين نصروا عمل المولد واستنبطوا له الأصول الشرعية الّتي ينبني عليها، قد فرّقوا بين حكم أصل عمله وحكم المخالفات الّتي قد تقع في بعض الأماكن أثناء الاحتفال به، فاستحسنوا أصل العمل واستصوبوه وردّوا المخالفات الشّرعية ومنعوها. فلا وجه إذًا لإنكار إظهار البشر والاحتفاء والاحتفال به في ليلة مولده صلى الله عليه وسلم التي أجمع العلماء على فضلها وعلى استحباب رصد اللّيالي والأيّام الفاضلة من كلّ سنةٍ للإكثار من أعمال الخير فيها. وقد رجّح كثيرٌ من العلماء كونَها أفضل من ليلة القدر كما ذكر المفتي الشيخ: عطية صقر في فتاوى الأزهر (ج10 ص189). وممن نصّ على ذالك ابنُ مرزوق في جنا الجنّتين في فضل اللّيلتين كما في المعيار(ج11، ص280). وكذا الشّرواني في حاشيته على تحفة المحتاج (ج2 ص405) وإسماعيل حقّي في روح البيان في تفسير القران( ج 6 ص 340) وغيرهم. وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق.

تمَّ تأليفُ: القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ من إنشاء وإملاء: محمَّد مفتاح بن صالح التجاني الإبراهيمي. من موقع التيسير

Rabu, 19 Januari 2011

Senin, 17 Januari 2011

حجة من يحرم الاستغاثة من السنة

حجة من يحرم الاستغاثة من السنة

استدل من حرم الاستغاثة بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق قال : قوموا بنا نستغيث برسول الله
( صلى الله عليه وسلم ) من هذا المنافق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :
( إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله تعالى ) وهذا حديث ضعيف

وقد روى هذا الحديث الطبراني وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف ، ذكره الهيثمي في المجمع ( 8 / 40 ) قال رواه أحمد وفيه راو لم يسم وابن لهيعة ، وذكر في المجمع ( 10 / 159 ) أن ابن لهيعة حسن الحديث ، وليس كذلك فقد ضعفه هو وغيره مرارا ، مع أن الحديث يخالف الأحاديث الصحيحة وخصوصا حديث الصحيحين الصريح في الاستغاثة ، ولو صح هذا الحديث كان حجة على أن الاستغاثة ليست كفرا وانما تركها هو الأدب والأفضل لأن أبا بكر أعرف الناس وأفقه الناس بالقرآن بعد النبي من أمته فيما يوجب الكفر من غيره ، وأيضا لم يأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتشهد ويدخل من جديد في الإسلام

هذه هي حجة مانعي الاستغاثة الذين يكفرون عباد الله جزافا لغير موجب للتكفير ، وهي مهلهلة كما رأيت ، وذلك مبلغهم من العلم ويرددون آيات لا يدركون معناها سنجيب عنها الآن إن شاء الله تعالى سريعا ، مع أننا على استعداد تام لأن نتوسع في شرحها ونبرهن عليه وننقل أقوال العلماء متى احتاج الأمر لذلك .

من تلك الآيات التي يحتجون بها : ( وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي ) ومن المعلوم بداهة : أن أشخاصا كثر قد سألوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الدعاء وغيره ودعا لهم وأعطاهم ، ولم يتنافى هذا مع الآية ، لأن الآية الكريمة تقرر أنه ليس شرطا في الدعاء اتخاذ الوسائط والوسائل وأيضا ليس فيها ما يمنع ذلك ، فهي تقرر أن الإنسان له أن يدعو الله تعالى متى شاء دون واسطة سواء كان في حياة النبي أو بعد وفاته .

ومن تلك الآيات التي يوردونها ويضعونها في غير محلها أيضا : قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا ) . ومعنى ذلك : أي لا تعبدوا غير الله تعالى ولا تعبدوا معه هذه الأوثان التي قال الله عنها : ( واتخذوا من دونه آلهة ) مع أنه قال أيضا : ( أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) فهم لم يكن أحد منهم موحدا لا الرب ولا الإله لأن الرب هو الإله والإله هو الرب ،

ومنها قوله تعالى : ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) . فاطر 13 . ومعنى الآية مختصرا : والذين تعبدون من دون الله بسجودكم لهم واعتقادكم فيهم الألوهية كمن يعبد منكم الأصنام أو المسيح أو الكواكب أو يعبد أشخاصا من العظماء في الدنيا من دون الله العظيم حقيقة لا يملكون من قطمير لكم أي لفافة نواة تمر ، كاولئك الفرس مثلا الذين كانوا يعبدون كسرى والذين سألهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب حلقهم


علاء السلفي


الاستغاثة2

ولا أدري أيصفوه بالشرك بعد ذلك ؟ . .

وقال الإمام النووي أيضا في المجموع ( 8 / 274 ) مبينا ما يستحب أن يقوله من يزور النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا وقف أمام القبر الشريف مخاطبا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ما نصه : ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى

ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا - مستحسنين له قال : ( كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله وآستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي . . . . . ) اه‍ كلام النووي . يعني سائر الشافعية - عن العتبي

فانظر رحمك الله تعالى وهداك كيف أستحسن العلماء هذه الصيغة في نداء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وطلب العفو وأن يستغفر الله له ، ونحن لا نفعل إلا ذلك ولا نستحب إلا هذا ، ولا نريد على ما ورد في الأحاديث المتقدمة أو ما جاء عن العلماء الكبار في العلم ولا نعتقد في المخلوقين أنهم يرزقون بذاتهم أو يحيون ويميتون ، فالله تعالى بين لنا في كتابه أن إسناد الفعل لغيره على طريق المجاز ليس شركا ولكن ما نصنع بمن لا يدرك المجاز وينكره أشد الانكار ، قال تعالى في شأن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام : ( وأبرئ الاكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وتدخرون في بيوتكم ) آل عمران جزء من آية 49 . فلو قال شخص أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرئ

ح ) وكذا شيخ الإمام النووي الذي حكى عنه النووي القصة في الأذكار وهو الإمام محمد بن أبي اليسر . انظر شرح الأذكار لابن علان ( 5 / 151 ) . ط )
وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني حيث ذكر حديث ابن أبي شيبة في الفتح ( 2 / 495 ) ولم ينته أن ذلك شرك كما نبه عليه المعلق على الفتح هداه ، وكذلك عند تحسين حديث البزار الذي في الاستغاثة ، وللحافظ ايضا أبيات في قصائده هي صريح الاستغاثة واني أعرض بعض تلك الأبيات وهي ثابتة عنه ثبوت الشمس في رابعة النهار ، ولمثله من الحفاظ أيضا أبيات كثيرة كابن دقيق العيد وابن سيد الناس وغيرهم ، فليحاربوا بعد اليوم الحافظ ابن حجر

ومهما حاول هؤلاء أن ينفوا ذلك عن الحافظ أو يتهربوا منها أو من الجواب عليها فلن يستطيعوا ، وهذه بعض الأبيات : قال الإمام ابن حجر : نبي الله يا خير البرايا بجاهك أتقي فصل القضاء وأرجو يا كريم العفو عما جنته يداي يا رب الحباء فقل يا أحمد بن على اذهب إلى دار النعيم بلا شقاء أنظر ديوان الحافظ ابن حجر ( المطبوع بالهند المكتبة العربية / حيدر أباد الدكن سنة 381 اه‍ وهي طبعة مصححة ) توجد نسخة من الكتاب بمكتبة

الجامعة الأردنية ، وقد نقل الأبيات أيضا العلامة يوسف النبهاني من خط الحافظ ابن حجر كما ذكر ذلك في مجموعة القصائد النبهانية ( 1 / 166 ) فانظر ذلك

فقد نقلت في هذه العجالة الاستغاثة عن ابن عباس ومالك الدار والسيدة عائشة وبلال بن الحارث المزني صاحب حديث مالك الدار عند ابن أبي شيبة ، وكذا يدخل بذلك جميع من حضر من الصحابة والتابعين ، وكذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى والطبراني والنووي الذي نقل استحباب ذلك عن الشافعية والحافظ ابن حجر ، وأظن أن في ذلك اقناعا لكل لبيب أن يتقي الله تعالى ويعلم أن هذا الأمر جائز شرعا .


1( فصل ) : في أدلة الاستغاثة الصحيحة وآثار السلف أيضا :

1 ) ثبت في صحيح البخاري في كتاب الزكاة باب رقم ( 52 ) أنظر فتح الباري ( 3 / 338 ) الطبعة السلفية ما نصه : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : . ( إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ، ثم بمحمد فيشفع ليقضى بين الخلق . . . ) .


أقول : وهذا تصريح بالاستغاثة بغير الله تعالى في أمر لا يملك تفريجه يومئذ إلا الله تعالى وحده ، وكلنا يعتقد أن النبي


( صلى الله عليه وسلم ) عبد من عبيد الله ليس له الملك يومئذ لأن ( الملك اليوم لله الواحد القهار ) ، واستغاثة الناس بعد


اتضاح الشرك من الإيمان يومئذ وخصوصا بسيدنا آدم الذي يعترف بأنه لا يستطيع ذلك ثم بمن بعده من أكابر الأدلة


وأنصعها وأصحها على أن الاستغاثة بغير الله تعالى ولو لم يكن المستغيث يملك النفع ليس شركا ولا كفرا كما يظن البعض


بل هو حق في موقف يشهده الخلق جميعا بين يدي رب العالمين النافع الضار سبحانه ،


وذكر لفظة الاستغاثة في هذا الحديث نص صريح على حقية ذلك ، فليس لأي انسان أن يقول : هذا حديث الشفاعة ونحن نعرفه ، لأن قوله هذا لا ينفي الاستغاثة ، بل يثبت هذا عليه أن التوسل والاستغاثة والاستعانة والشفاعة كلها بمعنى واحد وهو توسيط النبي أو غيره بين صاحب الحاجة وبين الله تعالى وهو يعتقد أن الأمر بيد الله .


ولذلك قال الحافظ ابن حجر معلقا على نحو هذا الحديث في الفتح ( 11 / 441 ) وفية أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله في حوائجهم بأنبيائهم اه‍ .



قلت : وهؤلاء الناس منهم من أدرك الأنبياء في حياتهم الدنيوية قبل وفاتهم ومنهم من أدركهم بعد الوفاة ، والجميع مستغيثون بالأنبياء

2 ) وروى البخاري في صحيحه في كتاب الاستسقاء باب ( 6 ) الفتح ( 2 / 501 ) : عن أنس بن مالك : ( أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب ، فاستقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائما فقال : يارسول الله هلكت المواشي ، وانقطعت السبل ، فادع الله يغيثنا - أي يمطرنا - قال : فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديه فقال : اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا . قال أنس : ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار .

قال : فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس ثم انتشرت ، ثم امطرت . . . . ) . قلت : هذا الرجل أصيب ماله بالهلاك وجاء مستغيثا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله في أن يمطرهم ، وهو يخطب على المنبر ، فلم يقل له صلى الله عليه وآله وسلم : عليك أن تدعو الله أنت لأن الله يقول : ( إذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) وكذا لم يقل له ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم ) لأن هاتين الآيتين لا تنفيان سؤال الغير والاستغاثة بالأنبياء ، وذكر الشئ لا ينفي ما عداه كما هو مقرر في الأصول ،



ومن هذا الباب جاء في الحديث الصحيح : أن الأعمى استغاث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو الله له في رد بصره ، فلم يدع به وإنما علمه التوسل والاستغاثة بجاهه ( صلى الله عليه وسلم ) في الدعاء المسنون المشهور الذي فيه


( اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة - وهذا توسل - يا محمد إني أتوجه بك الله في حاجتي لتقضى - وهذه استغاثة صريحة - ) وخصوصا أن النبي لم يخص هذا الدعاء بحياته فقط مع أنه حي في قبره كما أخبر وجاءنا في الحديث الصحيح ، وعلماء الأمة ذكروا هذا الحديث في أبواب صلاة الحاجة من مصنفاتهم ولم يقل أحد منهم إياكم أن تدعو به فانه شرك ،

بل حثوا الأمة على الدعاء به طبيقا لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمستغيث منا الآن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعرف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حي في قبره يسمع سلام المسلمين عليه ويرد عليهم وتعرض عليه أعمال أمته ، فإذا وقف الإنسان منا على قبره صلى الله عليه واله وسلم فقال : يا رسول الله جئتك مستغفرا من ذني مستغيثا بك إلى ربي فآعف عني وأدع الله أن يغفر لي ذنوبي وإسرافي في أمري .

لم يكن ذلك شركا ولا كفرا باتفاق غير المتعصبين ، وخصوصا إن علمت أن الإمام النووي حض على مثل هذه الصيغة كما في المجموع ( 8 / 274 ) ونقله عن علماء الشافعية ، وأن ابن حجر العسقلاني يقول كما في ديوانه بخط القلم : نبي الله يا خير البرايا بجاهك أتقي فصل القضاء وأرجو يا كريم العفو عما جنته يداي يا رب الحباء فكعب الجود لا يرضى فداء لنعلك وهو رأس في السخاء وسن بمدحك ابن زهير كعب لمثلي منك جائزة الثناء فقل يا أحمد بن علي اذهب إلى دار النعيم بلا شقاء فإن أحزن فمدحك لي سروري وإن اقنط فحمدك لي رجائي ( 6 ) وديوان الحافظ مطبوع قديما في الهند وهناك نسخة منه في مكتبة الجامعة الأردنية فلتنظر وليبحث عن مخطوطه أيضا بخطه للتأكد .

فان قال قائل في هذين الدليلين هذه الاستغاثة جائزة في حياته فقط ، قلنا : أنت لا تجيز الاستغاثة بغير الله مطلقا ، وتصف المستغيث بالشرك في أمر أقل ما يقال فيه : أمر مختلف فيه ، وتدعي أن هذا من صلب العقيدة

وستأتي إن شاء الله تعالى أدلة واضحة في إثبات الاستغاثة بعد الوفاة ، فتأمل وأنصف .


3 ) روى الطبراني وأبو يعلى في مسنده وابن السني في عمل اليوم والليلة عن عبد الله ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا أنفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد : يا عباد الله احبسوا علي ، يا عباد الله احبسوا علي ، فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم ) .

وفي رواية أخرى لهذا الحديث : ( إذا ضل أحدكم شيئا ، أو أراد أحدكم غوثا ، وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل : يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني ، فان لله عبادا لا نراهم ) . رواها الطبراني في الكبير وقال بعد ذلك : وقد جرب ذلك .

ورواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ : ( إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر ، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد : يا عباد الله أعينوني ) . وحديث البزار هذا حسنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في أمالي الأذكار كما في شرح ابن علان على الاذكار ( 5 / 151 ) .
وقال الحافظ الهيثمي عنه في المجمع ( 10 / 32 ) رجاله ثقات .

وزاد الحافظ الهيثمي مؤكدا على رواية الطبراني مقرا قوله : وقد جرب ذلك . ولو فرضنا جدلا أن هذا الحديث الحسن موضوع فكيف يجوز علماء الأمة وأهل الحديث هذا الأمر ويقولون : وجد جرب ذلك ، وسيمر بنا إن شاء الله تعالى ذكر من عمل بذلك وحسنه من الحفاظ .


( تنبيه ) : والعجب العجاب أن الألباني اعترف بحسن حديث البزار هذا في ضعيفته ( 2 / 111 ) فقال : وبعد كتابة ما سبق وقفت على إسناد البزار في زوائده ص 303 . . . . قلت : وهذا إسناد حسن كما قالوا . . . . الخ . اه‍

قلت : ثم قبل ذلك جوز في نفس الصحيفة الاستغاثة بالملائكة وبالجن لهذا الحديث ثم جنح إلى اقتصار ذلك على الملائكة ، وهو يعلم أن الأنبياء أحياء في قبورهم . . . . إلى آخر ما تقدم .

وليعلم أيضا : أن ابن تيمية ذكر الحديث في ( الكلم الطيب ) لأنه يرى ذلك من الكلم الطيب لا من الكلم الخبيث . وقد علق الألباني

في صحيح الكلم الطيب على هذا الحديث بأنه : ضعيف كما خرجه في ضعيفته ، مع أنه يرى حسن إسناده واختار أن الأصح أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما بغير أدلة علمية مقبولة ، وتكهن أن ابن عباس ربما أخذ ذلك من أهل الكتاب ، واني أعجب من الألباني !

هل يجوز على ابن عباس أن يأخذ الشرك من أهل الكتاب ثم يرويه للأمة ثم يتلقاه علماء الأمة بالقبول ويعملوا به وعلى رأسهم أحمد بن حنبل أحد أئمة السنة من السلف المشهورين ؟ ! انظر صحيح الكلم الطيب ص ( 98 ) حديث ( 177 ) وتأمل في كلام ابن تيمية وتعليق الألباني عليه ، ثم تأمل في صحيفة ( 111 ) من المجلد الثاني من ضعيفة الألباني لتدرك التناقض في أعرض صوره .


4 ) الدليل الرابع للاستغاثة : قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ( 8 / 578 - 579 ) : أخرج قصة عاد الثانية أحمد باسناد حسن عن الحارث بن حسان البكري قال : ( خرجت أنا والعلاء بن الحضرمي إلى رسول الله ( صى الله عليه وسلم ) الحديث - وفيه - فقلت : أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد ، قال : وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث ولكنه يستطعمه . . . . . ) اه‍ من فتح الباري . قلت : وهذه استغاثة صريحة .

5 ) الدليل الخامس للاستغاثة : من استغاثات الصحابة به وإقرارهم لمن

فعل ذلك بعد موته ( صلى الله عليه وسلم ) : قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 2 / 495 ) : روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال : ( أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ؟ يا رسول الله استسق لامتك فانهم قد هلكوا . . . . ) .

قلت : ومالك الدار ثقة بالإجماع عدله ووثقه سيدنا عمر وسيدنا عثمان فولياه بيت المال والقسم ولا يوليان إلا ثقة ضابطا عدلا كما نص الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمته ، ونقل ذلك عن إمام المحدثين علي بن المديني ، وكذا وثقه جميع الصحابة الذين كانوا في زمن عمر وعثمان رضي الله عن الجميع ، بل نص الحافظ أن لمالك إدراك ، فهو صحابي صغير وهذا يجعله ثقة اتفاقا ، ثم روى عنه أربعة من الثقات ، ونصق على أنه معروف البخاري في تاريخه وساق هذه القصة ،

وابن سعد في طبقاقه ( 5 / 12 ) وقد فصلت ذلك تفصيلا في ( الباهر ) وبينت ان تضعيف المعاصرين لمالك وقوله : ( غير معروف العدالة ) خطأ بل جهل وتدليس بالغ . فهذا الحديث يثبت بلا شك ولا ريب إجماع من حضر من الصحابة في زمن سيدنا عمر مع سيدنا عمر رضي الله عنهم على جواز الاستغاثة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد موته ، ونحن مقتدون بالصحابة في ذلك .


6 ) الدليل السادس للاستغاثة : حديث الدارمي في سننه أو مسنده ( 1 / 43 ) حيث قال : حدثنا أبو النعمان

قال : ( قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت : أنظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كوا إلى السماء حتى لا يبقى بينه وبين السماء سقف . قال : ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق ) .

قلت : وهذا صريح أيضا بإسناد صحيح بأن السيدة عائشة رضي الله عنها استغاثت بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد موته وكذا جميع الصحابة الذين كانوا هناك وافقوها وفعلوا ما أرشدتهم إليه .

وكأنها أيضا تقول إذا جعلتم كوا إلى السماء فأنتم تسألون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدعو الله تعالى أن يمطرنا من السماء ، كما كان النبي أحيانا يخرج بهم عند الاستسقاء إلى الصحراء وأحيانا على منبره ( صلى الله عليه وسلم ) .


7 ) الدليل السابع للاستغاثة : فعل علماء الأمة من السلف الصالح ومن بعدهم من المحذثين دون نكير أحد من المعتبرين حتى جاء ابن عبد الوهاب فسقى غير اتباعه مشركين ( انظر كشف الشبهات له ترى العجب العجاب ) .

وإنما اعتبرت فعل السلف وائمة الحديث من الخلف لذلك دليلا لما الحسن الصدوق الحافظ . وقال ابن سعد : كان ثقة . وقال العجلي : بصري ثقة . وقد طعن فيه بعض الناس ولم يضره ذلك . انظر تهذيب التهذيب : ( 4 / 29 ) وكثير من الثقات وخصوصا من رجال الصحيحين

) أن ابن عباس روى حديث الاستغاثة الذي عند البزار مرفوعا ، وهو بإسناد حسن وقد اعترف الألباني بحسنه ثم رجح وقفه على ابن عباس كما في ضعيفته ( 2 / 112 ) فعلى هذا يكون ابن عباس ممن أجاز الاستغاثة وروى حديثها لمن

ب ) وكذلك ورد في أثر السيدة عائشة الذي ذكرنا أن الدارمي رواه مع من وافقها من المسلمين ساعتئذ ، ومن رد هذا بحجج منطقية سمجة فليبقها لنفسه فانها لا وزن لها عندنا ، لأنه يريد دفع النصوص الصحيحة التي لا تنفيها الآيات المباركات التي يحاول أن يبطل بها تلك الأحاديث بآتفاق العقلاء .


ج ) استغاثة الإمام أحمد : روى البيهقي في الشعب وابن عساكر من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد ، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد في المسائل ( 217 ) بإسناد صحيح اعترف بصحته الألباني ( ضعيفه 2 / 111 ) : سمعت أبي يقول : حججت خمس حجج منها ثنتين راكبا وثلاثة ماشيا ، أو ثنتين ماشيا وثلاثة راكبا ، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشيا فجعلت أقول : ( يا عباد الله دلونا على الطريق ) فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق . . . . اه‍ وذكر هذه القصة أيضا ابن مفلح الحنبلي تلميذ ابن تيمية في كتاب ( الآداب الشرعية )

د ، ه‍ ) ذكر ابن مفلح لذلك يدل على أن ذلك جائز عنده ليس بشرك كما يدعي الغلاة اليوم ، فذكر القصة في كتابه المذكور يبين أن الاستغاثة بغير الله ليست شركا عنده إلا أن اعتقد المستغيث أن المستغاث به له قوة النفع والضر بنفسه دون الله وأنه متصرف في الكون دون الله ، وانظر كيف ذكر ذلك ابن تيمية في الكلم الطيب ولم يعتبره من الكلم الخبيث صحيفة ( 98 ) حديث ( 177 ) وكيف علق على ذلك الألباني فذكر أن الحديث ضعيف ولم يقل انه حسن موقوف على ابن عباس ، وما أدري ماذا يسمى هذا ؟ ! )

الإمام الحافظ الطبراني : ذكر الطبراني في معجمه الكبير أن حديث : ( إذا ضل أحدكم شيئا أو أراد أحدكم غوثا وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل : يا عباد الله أغيثوني . . . . ) وأن هذا مجرب ، وهذا منه تقوية للحديث وإن كان سنده ضعيفا ، ولم ينبه الإمام الحافظ الطبراني السلفي ( توفي 360 ) أن هذا شركا يجب اجتنابه بل حض عليه .

نهم الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى : ذكر الإمام النووي في الأذكار في كتاب أذكار المسافر : باب ما يقول إذا انفلتت دابته : ( ص 331 من طبعة دار الفكر دمشق بتحقيق أحمد راتب حموش ) ما نصه : روينا في كتاب ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا يا عباد الله احبسوا فان لله عز وجل حاضرا سيحبسه ) .

قلت : حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة وكان يعرف هذا الحديث ، فقاله ، فحبسها الله عليهم في الحال . وكنت أنا مرة مع جماعة فانفلتت منها بهيمة وعجزوا عنها فقلته : فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام . انتهى كلام الإمام الحافظ النووي من الأذكار .

اثبات حياة النبي في قبره

الاستغاثة عندي هي : الطلب من النبي قبل وفاته أو بعد وفاته - لأنه بعد وفاته حي كما أخبر يسمع وتعرض عليه أعمال أمته - أن يدعو الله تعالى في تلبية حاجة لصاحب الحاجة ، فقد طلب الناس منه ( صلى الله عيه وسلم ) الاستقساء في حياته وبعد مماته كما سيأتي إن شاء الله في أدلة الاستغاثة ، مع كون المطر بيد الله ليس بيد النبي كما هو معلوم ومشهور فقد جاء الرجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب فقال : يا رسول اللة هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا - أي يمطرنا - . . الحديث وكان الرجل مسلما كما في الفتح ( 2 / 502 ) والصحابة كانوا يعرفون قول الله تعالى ( وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) والنبي لم يقل لذلك الرجل إذا نزل بك قحط أو بلاء فلا تأتيني وتطلب مني الدعاء بل ! عليك أن تدعو الله وحدك للآية .
فاتضح أن هذه الآية لا تنفي الاستغاثة لان ذكر الشئ لا ينفي ما عداه كما هو مقرر في الأصول .

فلا بد من عقد فرع لاثبات حياة الأنبياء في قبورهم فإذا اتضح ذلك تبين جواز خطابهم ومناداتهم لأنهم يسمعون .

( فرع ) : اثبات حياة النبي في قبره :



قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ( 8 / 211 ) : رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات .
وفي فيض القدير ( 3 / 84 ) : رواه أبو يعلى عن أنس بن مالك وهو حديث صحيح اه‍ .

قلت : وصححه الألباني ، علما بأني لا أعتد بتصحيحه ولا بتضعيفه وأقول أنه ليس أهلا لذلك كما سأبين في عدة مواضع ، وإنما أذكر كلامه هو وابن تيمية وأمثالهما ليتنبه بذلك مقلدوهم وعاشقوهم . انظر صحيحته حديث ( 621 ) . قال المحدث الكتاني في نظم المتناثر ( 135 حديث رقم 115 ) : قال السيوطي في مرقات الصود : تواترت - بحياة الأنبياء في قبورهم - الأخبار ،


وقال - الحافظ السيوطي - في أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء ما نصه : حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علما قطعيا ، لما قام عندنا من الأدلة في ذلك ، وتواترت بها الأخبار الدالة على ذلك ، وقد ألف الأمام البيهقي رحمه الله تعالى جزءا في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم اه‍ .


وقال ابن القيم في كتاب الروح : صح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الأرض لا تأكل أجساد الانبياء ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس ، وفي السماء خصوصا بموسى ، وقد أخبر بأنه : ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام .


إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم ، وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة ، فانهم أحياء موجودون ولا نراهم ا ه‍ . . . . انتهى من نظم المتناثر للمحدث

وهذا الكلام لابن القيم موجود في كتاب الروح ص ( 53 - 54 ) طبعة دار الفكر الطبعة الثانية سنة 1986 ) . وهذا الكلام المتقدم نص عليه الإمام المناوي في فيض القدير ( 3 / 184 ) فراجعه .





( فرع ) : في إثبات أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسمع بعد موته وكذا سائر الأموات
إعلم يرحمك الله تعالى أن بعض من توهم أن الأموات لا يسمعون ظنوا أن قول الله تعالى ( وما أنت بمسمع من في القبور )
دليلا على ذلك ، وليس كذلك ، بل هذه الآية دليل على أن الكفار المصرين على الباطل لن ينتفعوا بالتذكير والموعظة كما أن الأموات الذين صاروا إلى قبورهم لن ينتفعوا بما يسمعونه من التذكير والموعظة بعد أن خرجوا من الدنيا على كفرهم ، فشبه الله تعالى هؤلاء الكفار المصرين بالأموات من هذا الوجه ، ونص على ذلك أهل التفسير فراجعه ،



واني أنقل لك قول واحد منهم : جاء في مختصر تفسير ابن كثير رحمه الله للشيخ الصابوني حفظه الله تعالى ( 3 / 45 ) في تفسير آية ( وما أنت بمسمع من في القبور ) إن المعنى : أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ، ولا تستطيع هدايتهم ( إن أنت إلا نذير ) . اه‍



واعلم أن الله تعالى قال ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) النمل / 80 ، وأنت تعلم أن الأموات لا يولون مدبرين بعد العظة والتذكير وإنما المراد بذلك الكفار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين : ( مثل الذي يذكر الله تعالى والذي لا يذكره مثل الحي والميت ) ونص على ذلك أئمة محققو المفسرين ، بالاضافة إلى الأدلة التي أوردتها في هذه الرسالة في اثبات سماع الأموات بلا شك ، أما قول أئمة التفسير : فقال الطبري في تفسيره ( مجلد 11 جز 25 صحيفة 12 ) : وقوله ( إنك لا تسمع الموتى ) يقول : إنك يا محمد لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلبه فأماته لأن الله قد ختم عليه أن لا يفهمه ( ولا يسمع الصم الدعاء ) يقول : ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصم الله عن سماعه سمعه ( إذا ولوا مدبرين ) يقول : إذا هم أدبروا معرضين عنه لا يسمعون له ، لغلبة دين الكفر على قلوبهم ولا يصغون للحق ولا يتدبرون ولا ينصتون لقائله ، ولكنهم يعرضون عنه وبنكرون القول به والاستماع له . انتهى من . الطبري .


وهذا يثبت بلا شك أن الضمير في قوله ( ولوا ) يعود على الأموات وعلى الصم .
وكذا قال الإمام الحافظ أبو حيان في تفسيره النهر الماد ( مطبوع مستقل دار الجنان 1407 صحيفة 2 / 632 ) فليراجع .

وأما حديث : ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت ) فحديث ثابت في الصحيحين ، انظر الفتح
( 11 / 208 ) وقال الحافظ صفحة 210 : وقع في مسلم عن أبي كريب بلفظ : ( مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر فيه مثل الحي والميت ) ثم قال : الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا السكن ، وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به سكن البيت ، فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره تزين بنور الحياة . . . . الخ كلامه اه‍
فتبين بهذا التحقيق أن الألباني فيما ادعى فيه التحقيق في تعليقه على سنه ابن أبي

عاصم ( 414 ) المسمى عنده بظلال الجنة : غلط محض بل
1 ) روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : ( وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ ثم قال : أنهم الآن يسمعون ما أقول . . . . .

وفي رواية في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه واله وسلم جعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فانا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . اه‍


ولا أدري أيصحح الألباني هذا الحديث أم يضعفه ؟ ! ومن رد هذا الكلام الصريح بكلام السيدة عائشة قلنا له : ذكر العلامة حبيب الله الشنقيطي في كتابه زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم ( 4 / 4 - 5 ) نقلا عن الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه : ومن الغريب أن في المغازي لابن اسحق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة - يعني أنها أثبتت أن الأموات يسمعون - وفيه ما أنتم بأسمع لما أقول منهم .

وأخرجه أحمد باسناد حسن فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الانكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصة . ا ه‍

قلت : لا حجة بمعارضتها رضي الله عنها ، وقد ثبت أنها رجعت ، وكلام من شهد القصة مقدم على كلامها بلا ريب وهم رجال عدة . والحمد لله تعالى .



2 ) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام ) رواه الحاكم في المستدرك ( 2 / 421 ) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه

وأقره الحافظ الذهبي ، وفي فيض القدير ( 2 / 479 ) : رواه أحمد في المسند والنسائي وابن حبان والحاكم ، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ، وقال الحافظ العراقي : الحديث متفق عليه دون قوله سياحين اه‍ قلت : فليراجع .


3 ) قال الحافظ السيوطي في اللمعة في أجوبة الأسئلة السبعة ( الحاوي 2 / 175 ) : روى الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ) صححه الحافظ أبو محمد بن عبد الحق .

قلت : والحافظ بن عبد الحق إمام في العلل ومعرفة الحديث كما في تذكرة الحفاظ للذهبي وكذا أشار إلى صحة الحديث صاحب عون المعبود فيه ( 3 / 370 ) . وسيأتي الكلام على هذا الحديث إن شاء الله في تنبيه آخر هذه الرسالة وبيان كيف ضعفه الألباني بلا حجة .


4 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام ) رواه أبو داود وغيره وصححه النووي في رياض الصالحين وفي الأذكار ، وقال الحافظ ابن حجر : رجاله ثقات ، كما في فيض القدير .

قال الإمام الحافظ السيوطي في رسالته : ( أنباء الأذكياء بحياة الأنبياء ) المطبوعة ضمن الحاوي ( 2 / 147 ) : قوله ( رد الله ) جملة حالية ، وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلا ماضيا قدرت ( قد ) ، كقوله تعالى : ( أو جاؤكم حصرت صدورهم ) أي : قد حصرت ، وكذا تقدر هنا والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد ، و ( حتى ) ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بمعنى الواو ، فصار تقدير الحديث : ( ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك فأرد عليه ) .

وإنما - جاء الإشكال على من ظن أن جملة ( رد الله علي ) بمعنى الحال ، أو الاستقبال ، وظن أن ( حتى ) تعليلية ، وليس كذلك ، وبهذا الذي قررناه ارتفع الإشكال من أصله وأيده من حيث المعنى : أن الرد لو أخذ بمعنى الحال والاستقبال لزم تكرره عند تكرر سلام المسلمين ، وتكرر الرد يستلزم تكرار المفارقة ، وتكرر المفارقة يلزم عليه محذوران :

أحدهما : تأليم الجسد الشريف بتكرار خروج الروح منه ، أو نوع ما من مخالفة التكريم إن لم يكن تأليم .
والاخر : مخالفة سائر الشهداء وغيرهم ، فإنه لم يثبت لأحد منهم أن يتكرر له مفارقة الروح وعودها في البرزخ ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة . انتهى كلام الحافظ السيوطي .



5 ) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا وحكما عدلا ، فليكسرن الصليب ويقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن المال فلا يقبله أحد ، ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأجبته ) .

قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ( 8 / 211 ) : قلت : هو في الصحيح باختصار رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح . اه‍ قلت : وفي قوله ( لأجبته ) دلالة ظاهرة في سماعه إياه .


6 ) وجاء في الصحيحين البخاري ( الفتح 3 / 205 ) ومسلم وكذا عند أحمد والسدي والبزار وابن حبان مرفوعا :
( إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم ) .



7 ) جاء في حديث أبي هريرة والسيدة عائشة وبريدة واللفظ له عند مسلم وغيره كما في تلخيص الحبير ( 2 / 137 ) : أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يقول إذا ذهب إلى المقابر : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، أسال الله لنا ولكم العافية ) .

قلت : وهذا نداء ودعاء للأموات صريح من النبي صلى الله عليه واله وسلم وتعليم للأمة فليس ذلك عبادة لهم ، وليس لأحد أن يقول هنا ( الدعاء هو العبادة ) كما أنه ليس لأحد أن يقول : وجب تغيير نداء النبي في الصلاة بعد وفاته بإبدال ( السلام عليك أيها النبي ) بلفظة ( السلام على النبي ) ، فتنبه ،
وقد أوردت كل فا تقدم ليكون مقدمة لأدلة الاستغاثة بالأنبياء الموصوفين بأنهم أحياء في قبورهم يسمعون وتعرض عليهم أعمال أممهم ، ومن أثبت التوسل والاستغاثة بذات الأنبياء والصالحين حال حياتهم فقط أثبت لهم تأثيرا ، كما أنه جردهم من منزلتهم بعد موتهم وهنا يكمن الخطر الجسيم .

حديث عرض الأعمال فيما يلي بين يدي أدلة الاستغاثة فأقول :



( فصل ) : في تحقيق : حياتي خير لكم ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم . . . روي بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم ) .

قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ( 9 / 24 ) رجاله رجال الصحيح اه‍
قلت : وسأفصل ذلك إن شاء الله تعالى بعد قليل - أعني صحة إسناده والرد على

من يحاول أن يوهم أن الحديث ضعيف .


فأقول : ضعف هذا الحديث بعض من لم يوافق الحديث مشربه بلا حجة ، فلبس بذلك على بعض الطلبة البسطاء ، وذهب هذا المضعف يحتج بأن هذا الحديث يعارض حديثا ثابتا في الصحيح وهو : ( حديث الحوض ) وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم القيامة داعيا أمته إلى الحوض : هلموا ، فتضرب الملائكة بعض من أراد الورود على الحوض ، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لماذا تذودوهم ؟ ! فتقول الملائكة : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فيقول صلى الله عليه وآله وسلم : سحقا ، سحقا . انتهى الحديث بمعناه .


قال مضعف حديث عرض الأعمال : فكيف تقول الملائكة في الحديث الصحيح إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك يا رسول الله ؟ ! فلو كانت الأعمال تعرض عليه لعرف ما صنعوا بعده .

فالجواب على هذا الاشكال هو ما أجاب به الحافظ في فتح الباري ( 11 / 385 ) جامعا بين الحديثين ناقلا ذلك عن أربع من أكابر حفاظ الأمة وهم : النووي وابن التين والقرطبي والقاضي عياض وهو خامسهم حيث قال ما معناه ملخصا : هؤلاء الذين يذادون عن الحوض هم المنافقون والذين ارتدوا عن الإسلام ، فهؤلاء لا تعرض أعمالهم عليه في الدنيا لخروجهم من أمته حقيقة ، وان كانوا في الصورة يصلون ويتوضأون فيحشرون بالغرة والتحجيل ، فإذا أبعدتهم الملائكة وقال لهم سحقا سحقا أطفا الله تعالى غرتهم وتحجيلهم وأذهبه ساعتئذ . اه‍ من الفتح .


وحديث ( حياتي خير لكم . . . . ) رواه البزار في مسنده كما في كشف الأستار عن زوائد البزار ( 1 / 397 ) بإسناد رجاله رجال الصحيح
كما قال الحافظ نور الدين الهيثمي في المجمع ( 9 / 24 )
وقال الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى ( 2 / 281 ) سنده صحيح ،
وقال الحافظان العراقيان - الزين وابنه ولي الدين - في طرح التثريب ( 3 / 297 ) : إسناد جيد ، وطرح الثريب من آخر مؤلفات الحافظ الزين العراقي .
وروى الحديث ابن سعد باسناد حسن

فمما قدمناه بان أن الذين صححوا الحديث من أهل الحديث :
1 ) الحافظ النووي .
2 ) والحافظ ابن التين .
3 ) والحافظ القرطبي .
4 ) والحافظ القاضي عياض .
5 ) والحافظ ابن حجر العسقلاني كما نقل ذلك عمن تقدم ذكرهم في الجمع بينه وبين حديث الشفاعة كما في
الفتح ( 11 / 385 ) .
6 ) والحافظ زين الدين العراقي إمام زمانه .
7 ) وولده الحافظ ولي الدين العراقي أبو زرعة .
8 ) والإمام الحافظ السيوطي .
9 ) والحافظ الهيثمي كما في مجمع الزوائد .
10) وكذا المحدث المناوي في فيض القدير .
11) وكذا الحافظ المحدث السيد أحمد الغماري .
12) وكذا مولانا محدث العصر المحقق سيدي عبد الله بن الصديق .
وهؤلاء الأئمة النقاد بلا شك ولا ريب مقدم تصحيحهم عند كل عاقل كما نظن على تضيف الألباني له في
سلسلته الضعيفة ( 2 / 404 ) . ولا أشك أن الألباني ضعف الحديث لا لضعف سنده وإنما لمخالفته لمشربه فقط .

وأعجب منه كيف أنه يصحح أحاديث ضعيفة بشواهد شبه موضوعة كما فعل مثلا ثم يضعف هذا الحديث برجل من رجال مسلم والأربعة ووثقه الإمام أحمد وابن معين والنسائي وروى عنه أئمة من كبار المصنفين كالشافعي والحميدي وأمثالهم .



الطعن في هذا الرجل ( ابن أبي رواد ) مردود رده الذهبي في سير أعلام النبلاء فلينظر . ومن كان مؤهلا يا أخ مهداوي للمناقشة في علم الرجال واعترض على ما قررناه مما تبعنا فيه أهل الشأن فليناظرنا وليباحثنا في ذلك ، مع أني لم أر إلى الآن أحدا من أهل العلم المعتبرين ضعف حديث ( عرض الأعمال ) . والله الموفق للصواب . 1 ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ) رواه أبو يعلى والبزار والبيهقي في حياة الأنبياء وغيرهم .
2 ) وهناك أدلة عدة في حياة الأنبياء ستأتي أثناء عرض أدلة الاستغاثة فلا نريد التكرار والإطالة .