http://www.sonna3ma.com/forums/showthread.php?t=2560
سؤال يتردد على ألسنة كثيرين في مجالات مختلفة و أحيان شتى .
سؤال اختلاف جمهور المسلمين اليوم في الإجابة عليه ، و اختلاف سلوكهم تبعاً لاختلاف أجوبتهم ، فمنهم من يفتح أذنية لكل نوع من أنواع الغناء ، و لكل لون من ألوان الموسيقي مدعياً أن ذلك حلال طيب من طيبات الحياة أباح الله لعباده .
و منهم من يغلق الراديو أو يغلق أذنية عند سماع أية أغنية قائلاً : إن الغناء مزمار الشيطان ، و لهو الحديث و يصد عن ذكر الله و عن الصلاة و خاصة إذا كان المغني امرأة ، فالمرأة – عندهم – صوتها عورة بغير الغناء ، فكيف بالغناء ؟ و يستدلون لذلك بآيات و أحاديث و أقوال .
و من هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقى ، حتى المصاحبة لمقدمات نشرات الأخبار .
ووقف فرين ثالث متردداً بين الفريقين ؛ ينحاز إلى هؤلاء تارة ، وإلى أولئك طوراً ، ينتظر القول الفصل والجواب الشافي من علماء الإسلام في هذا الموضوع الخطير ، الذي يتعلق بعواطف الناس و حياتهم اليومية ، و خصوصاً بعد أن دخلت الإذاعة – المسموعة والمرئية – على الناس بيوتهم ، بجدها و هزلها ، و جذبت إليها أسماعهم بأغانيها و موسيقاها طوعاً و كرهاً .
و الغناء بآية – أي مع الموسيقى – و بغير آلة : مسألة ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولى ، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخرى .
اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية ، إذ الغناء ليس إلا كلاماً فحسنه حسن ، و قبيحه قبيح و كل قول يشتمل على حرام ، فما بالك إذ اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
و اتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات و الإثارة ، و ذلك في مواطن السرور المروعة ، كالعرس ، وقدوم الغائب ، و أيام الأعياد . . .
ونحوها ، بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها .
و قد وردت في ذلك نصوص صريحة – سنذكرها فيما بعد . و اختلفوا فيما عدا ذلك اختلافاً بيناً : فمنهم من أجاز كل غناء بآلة و بغير آلة ، ومنهم من منعه منعاً باتاً بآلة و بغير آلة ، و عده حراماً ، بل ريما ارتقي به إلى درجة « الكبيرة » .
و لأهمية الموضوع نرى لزاماً علينا أن نفصل فيه بعض التفصيل ، و نلقي عليه أضواء كاشفة لجوانبه المختلفة ، حتى يتبين المسلم الحلال فيه من الحرام ، متبعاً للدليل الناصع ، لا مقلداً قول قائل ، و بذلك يكون على بينة من أمره ، و بصيرة من دينه .
فلسطين تحت الحصار
كتب
خطب ومحاضرات
برامج ولقاءات
مقالات
ندوات ومؤتمرات
أخبار القرضاوي
فتاوى وأحكام
شعر وأدب
في رمضان
أخبار الموقع
حول القرضاوي
وثائق وبيانات
للإعلان في الموقع
ساهم في تطوير الموقع
مواعيد البرامج التلفزيونية
اربط موقعك بصفحات القرضاوي
مركز المساعدة
اتصل بنا
منتديات النقاش
تصويت
الأصل في الأشياء الإباحة
قرر علماء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالى : ( هوَ الَذِي خَلَقَ لَكم مَا فِي الُأَرُضِ جَمِيعَاَ ) (البقرة (29) ) ، و لا تحريم إلا بنص صحيح صريح من كتاب الله تعالى ، أو سنة رسوله ( صلي الله عليه و آله و سلم ) ، أو إجماع ثابت متيقن ، فإذا لم يرد نص ولا إجماع . أو ورد نص صريح غير صحيح ، أو صحيح غير صحيح ، بتحريم شيء من الأشياء ، لم يؤثر ذلك في حله ، و بقي في دائرة العفو الواسعة ، قال تعالى : ( وَقَدُ فَصَلَ لَكم مَا حَرَمَ عَلَيُكمُ إِلَا مَا اضُطرِرُتمُ إِلَيُهِ ) (الأنعام (119)) . و قال رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، و ما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً » ، و تلا : ( وَ مَا كَانَ رَبكَ نَسِيَاَ (رواه الحاكم عن أبي الدر داء و صححه ، و أخرجه البزّار – و الآية من سورة مريم(64) ) .
و قال : « إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، و سكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها » (أخرجه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني ، و حسنه الحافظ أبو بكر ا لسمعا ني في أماليه ، والنووي في الأربعين .).
و إذ كانت هذه هي القاعدة ، فما هي النصوص و الأدلة التي استند إليها القائلون بتحريم الغناء ، و ما موقف المجيزين منها ؟
أدلة المحرمين للغناء و مناقشتها
( أ ) استدل المحرمون بما روي عن ابن مسعود و ابن عباس و بعض التابعين : أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالى : ( وَ مِنَ النَاسِ مَن يَشُتَرِي لَهُوِ الحَدِيثِ لِيضِلَّ عَن سَبِيلِ الَلهِ بِغَيُرِ عِلُمِ وَ يَتَّخِذَهَا هزوًا أولَيكَ لَهمُ عَذَاب مهِين) لقمان (6) ) ؛ و فسروا لهو الحديث بالغناء .
قال ابن حزم : « ولا حجة في هذا لوجوه :
أحدها : أنه لا حجة لأحد دون رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) .
و الثاني : أنه قر خالف غير هم من الصاحبة و التابعين .
والثالث : أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها ؛ لأن فيها : ( وَ مِنَ النَاسِ مَن يَشُتَرِي لَهُوَ الُحَدِيثِ لِيضِلَّ عَن سَبِيلَ اللَهِ بِغَيُرِ عِلُمِ وَ يَتَّخِذَهَا هزوًا ) ، و هذه صفة من فعلها كان كافراً بلا خلاف ، إذا اتخذ سبيل الله هزواً .
قال : « و لو أن امرءاً اشترى مصحفاً ليضل به عن سبيل الله ، و يتخذه هزواً ، لكان كافراً ! فهذا هو الذي ذم الله تعالى ، و ما ذم قط – عز و جل – من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح نفسه ، لا ليضل عن سبيل الله تعالى . فبطل تعلقهم بفول هؤلاء ، و كذلك من اشتغل عامداً عن الصلاة بقراءة القرآن ،أو بقراءة السنن ، أو بحديث يتحدث به ، أو بغناء ، أو بغير ذلك ، فهو فساق عاص لله تعالى ، و من لم يضيع شيئاً من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن » (المحلى لابن حزم : 9/60 ) .
(ب) و استلوا بقوله تعالى في مدح المؤمنين : ( وَ إِذَا سَمِعواُ اللّغُوَ أَعُرَضواُ عَنُه ) القصص(55) ، و الغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه .
و يجاب بأن الظاهر من الآية أن اللغو : سفه القول من السب والشتم و نحو ذلك ، و بقية الآية تنطق بذلك . قال تعالى : ( وَ إِذَا سَمِعوُاُ اللَغُوَ أَعُرَضواُ عَنُه وَقَالواُ لَنا أَعُمَالنَا وَلَكمُ أَعُمَالَكمُ سَلَم عَلَيُكمُ لَا نَبُتَغِي الُجَاهِلِيُنَ ) القصص (55) ، فهي شبيهة بقوله تعالى في وصف عباد الرحمن : ( وَ إِذَا خَاطَبَهم الُجَاهِلونَ قَالواُ سَلَمَا) الفرقان (63)
.
و لو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه تمدحه ،و ليس فيها ما يوجب ذلك.
و كلمة «اللغو » ككلمة « الباطل » تعني ما لا فائدة فيه ، و سماع ما لا فائدة فيه ليس محرماً ما لم يضيع حقاً ، أو يشغل عن واجب .
روي عن ابن جريج : أنه كان يرخص في السماع فقيل له : أيؤتى به يوم القيمة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال : لا في الحسنات و لا في السيئات ؛ لأنه شبيه باللغو ، قال تعالى : (لا يؤَخِذ كم اللَه بِالَلغُو ِفِي أَيُمَانَكمُ ) (البقرة : 225 ، المائدة : 89 .) .
قال الإمام الغزالي : « إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه و لا تصميم ، و المخالفة فيه – مع أنه لا فائدة فيه – لا يؤاخذ به ، فكيف يؤاخذ بالشعر و الرقص » ؟ ! (- إحياء علوم الدين ، كتاب « السماع » ص 1147 – طبعة دار الشعب بمصر).
على أننا نقول : ليس كل غناءٍ لغواً ؛ إنه يأخذ حكمه و فق نية صاحبه ، فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة ، و المزح طاعة ، و النية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة . باطنه الرياء : « إن الله لا ينظر إلى صوركم و أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم » (رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، كتاب « البر و الصلة و الآداب » ، باب : تحريم ظلم المسلم) .
و ننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في « المحلى » ردا على الذين يمنعون الغناء قال : « احتجوا فقالوا : من الحق الغناء أم من غير الحق ؟ و لا سبيل إلى قسم ثالث ، و قد قال الله تعالى : ( فَمَا ذَا بَعُدَ الُحَقِ إلا الضَلال ) يونس( 32) ، فجوابنا – و بالله التوفيق - : أن رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) قال : « إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرىء ما نوى » (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب ، و هو أول حديث في صحيح البخاري . )
فمن نوى باستماع الغناء ، و من نوى به ترويح نفسه ، ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل ، و ينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن ، و فعله هذا من الحق ، ومن لم ينو طالعة و لا معصية فهو لغو معفو عنه ، كخروج الإنسان إلى بستانه ، و قعوده على باب داره متفرجاً و صبغه ثوبه لا زورديّاً أو أخضر أو غير ذلك ، و مد ساقه و قبضها ، و سائر أفعاله » (المحلى : 9/60) .
( ج ) و استدلوا بحديث : « كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، و تأديبه فرسه ، و رميه عن قوسه » (رواه أصحاب السنن الأربعة ، و فيه اضطراب . قاله الحافظ العراقي في تخريج أحاديث « الإحياء » .) .
و الغناء خارج عن هذه الثلاثة .
و أجاب المجوزون بضعف الحديث ، ولو صح لما كان فيه حجة ، فإن قوله : « فهو باطل » لا يدل على التحريم ، بل يدل على عدم الفائدة . فقد ورد عن أبي الدر داء قوله : « إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق » . على أن الحصر في الثلاثة غير مراد ، فإن التلهي بالنظر إلى الحبشة و هم يرقصون في المسجد النبوي خارج عن تلك الأمور الثلاثة ، و قد ثبت في الصحيح ، و لا شك أن التفرج في البساتين و سماع أصوات الطيور ، و أنواع المداعبات مما يلهو به الرحل ، لا يحرم عليه شيء منها ،و إن جاز و صفه بأنه باطل .
( د ) و استدلوا بالحديث الذي رواه البخاري – معلقاً – عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري – شك من الراوي – عن النبي علنه الصلاة و السلام قال : « ليكو نن قوم من أمتي يستحلون الحر (الحر : بكسر الحاء و تخفيف الراء - : أي الفرج ، و المعنى : يستحلون الزنى . و رواية البخاري : الخزّ.)
والحرير والخمر والمعازف». والمعازف: الملاهي ، أو آلات العزف.
و الحديث و إن كان في صحيح البخاري : إلا أنه من « المعلقات » لا من « المسندات المتصلة » و لذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده و مع التعليق فقد قالوا : إن سنده و متنه لم يسلما من الاضطراب .
و قد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث ، ووصله بالفعل من تسع طرق ، و لكنها جميعاً تدور على راوٍ تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ، ألا و هو : هشام ابن عمار (النظر : تغليق التعليق – للحافظ ابن حجر : 5/17 – 22 ، تحقيق سعيد القزقي – طبع المكتب الإسلامي و دار عمار . ) . و هو – و إن كان خطيب دمشق و مقرئها و محدثها وعالمها ، ووثقه ابن معين و العجلي – فقد قال عنه أبو داود : حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها .
و قال أبو حاتم : صدوق و قد تغير ، فكان كل ما دفع إليه قرأه ، و كل ما لقنه تلقّن . و كذلك قال ابن سيار .
و قال الإمام أحمد : طياش خفيف .
و قال النسائي : لا بأس به ( و هذا ليس بتوثيق مطلق ) .
و رغم دفاع الحافظ الذهبي عنه قال : صدوق مكثر له ما ينكر (- انظر ترجمته في ميزان الاعتدال ( 4/302 ) ترجمة ( 9234 ) ، و في « تهذيب التهذيب » ( 51/11 – 54 ) . ) .
وأنكروا عليه أنه لم يكن يحدّث إلا بأجر !
و مثل هذا لا يقبل حديثه في مواطن النزاع ، و خصوصاً في أمر عمت به البلوى .
و رغم ما في ثبوته من الكلام ،فقي دلالة كلام آخر؛ فكلمة «المعازف » لم يتفق على معناها بالتحديد : ما هو ؟ فقد قيل : الملاهي ،وهذه مجملة ، وقيل : آلات العزف .
ولو سلّمنا بأن معناها : آلات الطرب المعروفة بآلات الموسيقى . فلفظ الحديث المعلّق في البخاري غير صحيح في إفادة حرمة « المعازف » لأن عبارة « يستحلون » - كما ذكر ابن العربي – لها معنيان : أحدهما : يعتقدون أن ذلك حلال ، والثاني : أن تكون مجازاً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور ؛ إذ لو كان المقصود بالاستحلال : المعني الحقيقي ، لكان كفراً ، فإن استحلال الحرام المقطوع به – مثل الخمر والزنى المعبر عنه ب « الحر » كفر بالإجمال .
و لو سلمنا بدلالتها على الحرمة ، فهل يستفاد منها تحريم المجموع المذكور من الحر و الحرير و الخمر و المعازف ، أو كل فرد منها على حدة ؟ و الأول هو الراجح . فإن الحديث في الواقع ينعى على أخلاق طائفة من الناس : انغمسوا في الترف و الليالي الحمراء ، و شرب الخمور . فهم بين خمر نساء ، و لهو و غناء ، و خزّ و حرير . و لذا روي ابن ماجه هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بالفظ : « ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ، يعزف على رؤوسهم بالمعازف و المعنيات ، يخسف الله بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير » ، و كذلك رواه ابن حبان في صحيحه ، و البخاري في تاريخه .
و كل من روي الحديث من طريق غير هشام ابن عمار ، جعل الوعيد على شرب الخمر ، و ما المعازف إلا مكملة و تابعة .
( هـ ) و استدلوا بحديث عائشة : « إن الله تعالى حرم القينة ( أي الجارية 9 و بيعها و ثمنها و تعليمها » .
و الجواب عن ذلك :
أولاً : أن الحديث ضعيف ، و كل ما جاء في تحريم بيع القيان ضعيف (انظر : تضعيف ابن حزم لهذه الأحاديث و تعليقه عليها في « المحلى » : 9/56 – 59 .) .
ثانياً : قال الغزالي : « المراد بالقينة الجارية التي تغني للدجال في مجلس الشرب ، و غناء الأجنبية للفسّاق و من يخاف عليهم الفتنة حرام ، و هم لا يقصدون بالفتنة إلا ما محذور . فأما غناء الجارية لمالكها ، فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث . بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة ، بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها (الإحياء ص 1148 .)
ثالثاً : كان هؤلاء القيان المغنيات يكون عنصراً هاماً من نظام الرقيق ، الذي جاء الإسلام بتصفيته تدريجياً ، فلم يكن يتفق و هذه الحكومة : إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع الإسلامي ، فإذا جاء حديث بالنعي على امتلاك « القينة » ، و بيعها ، و المنع منه ، فذلك لهدم ركن من بناء « نظام الرق » العتيد .
( و ) و استدلوا بما روي نافع : أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع أصبعيه في أذنية ،و عدل راحلته عن الطريق ، و هو يقول : يا نافع أستمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتى قلت : لا . فرفع يده و عدل راحلته إلى الطريق ، و قال : « رأيت رسول الله ( صلى الله عليه و آل و سلم ) يسمع زمارة راع فصنع مثل هذا » .
و الحديث قال عنه أبو داود : حديث منكر .
و لو صح لكان حجة على المحرمين لا لهم ، فلو كان سماع المزمار حراماً ما أباح النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) لا بن عمر سماعه ، و لو كان عند ابن عمر حراماً ما أباح لنافع سماعه ، و لأمر عليه السلام بمنع و تغيير هذا المنكر ، فإقرار النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) لا بن الحلال .
و إنما تجنب – عليه السلام – سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا ، كتجنبه الأكل متكئاً ، و أن يبيت عنده دينار أو درهم . . . إلخ .
( ز ) واستدلوا أيضاً بما روي : « إن الغناء ينبت النفاق في القلب » ولم يثبت هذا حديثاً عن نبي ( صلى الله عليه وآل و سلم ) و إنما ثبت قولاً لبعض الصحابة أو التابعين ، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره . فمن الناس من قال – وبخاصة الصوفية - : إن الغناء يرقق القلب ، ويبعث الحزن والندم علي المعصية ، و يهيج الشوق إلى الله تعالى ، و لهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم ، و تنشيط عزائمهم ، و إثارة أشوقهم . قالوا : و هذا أمر لا يعرف إلا بالذوق و التجربة و الممارسة ، و من ذاق عرف ، و ليس الخبر كالعيان !
على أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغني لا للسامع ، إذ كان غرض المغني أن يعرض نفسه على غيره ، و يروج صوته عليه ، و لا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه . و مع هذا قال الغزالي : « و ذلك لا يوجب تحريماً ، فإن لبس الثياب الجميلة ، و ركوب الخيل المهملجة ، و سائر أنواع الزينة ، و لا يطلق القول بتحريم ذلك كله ، فليس السبب في ظهور النفاق في القلب : المعاصي ، بل إن المباحات ، التي هي مواقع نظر الخلق ، أكثر تأثيراً » (الإحياء : كتاب « السماع » ص 1151 . ) .
( ح ) و استدلوا على تحريم غناء المرأة خاصة ، بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة ، و قد كان النساء يسألن رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) في ملاٍ من أصحابه ، و كان الصحابة يذهبون إلى أمهات المؤمنين و يستفتونهن و يفتينهم ويحدثنهم ،و لم يقل أحد : إن هذا من عائشة أو غيرها كشف لعورة يجب أن تستر . مع أن نساء النبي عليهن من التغليظ ما ليس على غير هن.
وقال تعالى : ( وًقلُنَ قَوُلاَ مَّعُروفَاَ) الأحزاب (32 ) .
فإن قالوا : هذا في الحديث العادي لا في الغناء ، قلنا : روي في الصحيحين أن النبي ( صلى الله عليه و آل و سلم ) سمع غناء الجاريتين و لم ينكر عليهما ، و قال لأبي بكر : « دعهما » ، و قد سمع ابن جعفر و غيره من الصحابة و التابعين الجواري يغنين .
( ط ) و استدلوا بحديث الترمذي عن علًّى مرفوعاً : « إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة ، حلّ تها البلاء . . . » ، وذكر منها : « واتخذت القينات و المعازف » ، و الحديث متفق على ضعفه ،فلا حجة فيه .
و الخلاصة
أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح ، أو صريح غير صحيح . و لم يسلم حديث واحد مرفوع إلى رسول الله ( صلي الله عليه وآل وسلم ) يصلح دليلاً للتحريم ، و كل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية و المالكية و الحنابلة و الشافعية .
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب « الأحكام » : لم يصح في التحريم شيء .
و كذا قال الغزالي و ابن النحوي في العمدة .
و قال ابن طاهر في كتابه في « السماع » : لم يصح منها حرف واحد .
و قال ابن حزم : « و لا يصح في هذا الباب شيء ، و كل ما فيه فموضوع . و والله لو أسند جمعية ، أو واحد منه فأكثر ، من طريق الثقات إلى رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) ، لما ترددنا في الأخذ به » (انظر « المحلى » : 9/59 .) .
سؤال اختلاف جمهور المسلمين اليوم في الإجابة عليه ، و اختلاف سلوكهم تبعاً لاختلاف أجوبتهم ، فمنهم من يفتح أذنية لكل نوع من أنواع الغناء ، و لكل لون من ألوان الموسيقي مدعياً أن ذلك حلال طيب من طيبات الحياة أباح الله لعباده .
و منهم من يغلق الراديو أو يغلق أذنية عند سماع أية أغنية قائلاً : إن الغناء مزمار الشيطان ، و لهو الحديث و يصد عن ذكر الله و عن الصلاة و خاصة إذا كان المغني امرأة ، فالمرأة – عندهم – صوتها عورة بغير الغناء ، فكيف بالغناء ؟ و يستدلون لذلك بآيات و أحاديث و أقوال .
و من هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقى ، حتى المصاحبة لمقدمات نشرات الأخبار .
ووقف فرين ثالث متردداً بين الفريقين ؛ ينحاز إلى هؤلاء تارة ، وإلى أولئك طوراً ، ينتظر القول الفصل والجواب الشافي من علماء الإسلام في هذا الموضوع الخطير ، الذي يتعلق بعواطف الناس و حياتهم اليومية ، و خصوصاً بعد أن دخلت الإذاعة – المسموعة والمرئية – على الناس بيوتهم ، بجدها و هزلها ، و جذبت إليها أسماعهم بأغانيها و موسيقاها طوعاً و كرهاً .
و الغناء بآية – أي مع الموسيقى – و بغير آلة : مسألة ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولى ، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخرى .
اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية ، إذ الغناء ليس إلا كلاماً فحسنه حسن ، و قبيحه قبيح و كل قول يشتمل على حرام ، فما بالك إذ اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
و اتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات و الإثارة ، و ذلك في مواطن السرور المروعة ، كالعرس ، وقدوم الغائب ، و أيام الأعياد . . .
ونحوها ، بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها .
و قد وردت في ذلك نصوص صريحة – سنذكرها فيما بعد . و اختلفوا فيما عدا ذلك اختلافاً بيناً : فمنهم من أجاز كل غناء بآلة و بغير آلة ، ومنهم من منعه منعاً باتاً بآلة و بغير آلة ، و عده حراماً ، بل ريما ارتقي به إلى درجة « الكبيرة » .
و لأهمية الموضوع نرى لزاماً علينا أن نفصل فيه بعض التفصيل ، و نلقي عليه أضواء كاشفة لجوانبه المختلفة ، حتى يتبين المسلم الحلال فيه من الحرام ، متبعاً للدليل الناصع ، لا مقلداً قول قائل ، و بذلك يكون على بينة من أمره ، و بصيرة من دينه .
فلسطين تحت الحصار
كتب
خطب ومحاضرات
برامج ولقاءات
مقالات
ندوات ومؤتمرات
أخبار القرضاوي
فتاوى وأحكام
شعر وأدب
في رمضان
أخبار الموقع
حول القرضاوي
وثائق وبيانات
للإعلان في الموقع
ساهم في تطوير الموقع
مواعيد البرامج التلفزيونية
اربط موقعك بصفحات القرضاوي
مركز المساعدة
اتصل بنا
منتديات النقاش
تصويت
الأصل في الأشياء الإباحة
قرر علماء الإسلام أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالى : ( هوَ الَذِي خَلَقَ لَكم مَا فِي الُأَرُضِ جَمِيعَاَ ) (البقرة (29) ) ، و لا تحريم إلا بنص صحيح صريح من كتاب الله تعالى ، أو سنة رسوله ( صلي الله عليه و آله و سلم ) ، أو إجماع ثابت متيقن ، فإذا لم يرد نص ولا إجماع . أو ورد نص صريح غير صحيح ، أو صحيح غير صحيح ، بتحريم شيء من الأشياء ، لم يؤثر ذلك في حله ، و بقي في دائرة العفو الواسعة ، قال تعالى : ( وَقَدُ فَصَلَ لَكم مَا حَرَمَ عَلَيُكمُ إِلَا مَا اضُطرِرُتمُ إِلَيُهِ ) (الأنعام (119)) . و قال رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، و ما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً » ، و تلا : ( وَ مَا كَانَ رَبكَ نَسِيَاَ (رواه الحاكم عن أبي الدر داء و صححه ، و أخرجه البزّار – و الآية من سورة مريم(64) ) .
و قال : « إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، و سكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها » (أخرجه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني ، و حسنه الحافظ أبو بكر ا لسمعا ني في أماليه ، والنووي في الأربعين .).
و إذ كانت هذه هي القاعدة ، فما هي النصوص و الأدلة التي استند إليها القائلون بتحريم الغناء ، و ما موقف المجيزين منها ؟
أدلة المحرمين للغناء و مناقشتها
( أ ) استدل المحرمون بما روي عن ابن مسعود و ابن عباس و بعض التابعين : أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالى : ( وَ مِنَ النَاسِ مَن يَشُتَرِي لَهُوِ الحَدِيثِ لِيضِلَّ عَن سَبِيلِ الَلهِ بِغَيُرِ عِلُمِ وَ يَتَّخِذَهَا هزوًا أولَيكَ لَهمُ عَذَاب مهِين) لقمان (6) ) ؛ و فسروا لهو الحديث بالغناء .
قال ابن حزم : « ولا حجة في هذا لوجوه :
أحدها : أنه لا حجة لأحد دون رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) .
و الثاني : أنه قر خالف غير هم من الصاحبة و التابعين .
والثالث : أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها ؛ لأن فيها : ( وَ مِنَ النَاسِ مَن يَشُتَرِي لَهُوَ الُحَدِيثِ لِيضِلَّ عَن سَبِيلَ اللَهِ بِغَيُرِ عِلُمِ وَ يَتَّخِذَهَا هزوًا ) ، و هذه صفة من فعلها كان كافراً بلا خلاف ، إذا اتخذ سبيل الله هزواً .
قال : « و لو أن امرءاً اشترى مصحفاً ليضل به عن سبيل الله ، و يتخذه هزواً ، لكان كافراً ! فهذا هو الذي ذم الله تعالى ، و ما ذم قط – عز و جل – من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح نفسه ، لا ليضل عن سبيل الله تعالى . فبطل تعلقهم بفول هؤلاء ، و كذلك من اشتغل عامداً عن الصلاة بقراءة القرآن ،أو بقراءة السنن ، أو بحديث يتحدث به ، أو بغناء ، أو بغير ذلك ، فهو فساق عاص لله تعالى ، و من لم يضيع شيئاً من الفرائض اشتغالاً بما ذكرنا فهو محسن » (المحلى لابن حزم : 9/60 ) .
(ب) و استلوا بقوله تعالى في مدح المؤمنين : ( وَ إِذَا سَمِعواُ اللّغُوَ أَعُرَضواُ عَنُه ) القصص(55) ، و الغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه .
و يجاب بأن الظاهر من الآية أن اللغو : سفه القول من السب والشتم و نحو ذلك ، و بقية الآية تنطق بذلك . قال تعالى : ( وَ إِذَا سَمِعوُاُ اللَغُوَ أَعُرَضواُ عَنُه وَقَالواُ لَنا أَعُمَالنَا وَلَكمُ أَعُمَالَكمُ سَلَم عَلَيُكمُ لَا نَبُتَغِي الُجَاهِلِيُنَ ) القصص (55) ، فهي شبيهة بقوله تعالى في وصف عباد الرحمن : ( وَ إِذَا خَاطَبَهم الُجَاهِلونَ قَالواُ سَلَمَا) الفرقان (63)
.
و لو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا الآية تستحب الإعراض عن سماعه تمدحه ،و ليس فيها ما يوجب ذلك.
و كلمة «اللغو » ككلمة « الباطل » تعني ما لا فائدة فيه ، و سماع ما لا فائدة فيه ليس محرماً ما لم يضيع حقاً ، أو يشغل عن واجب .
روي عن ابن جريج : أنه كان يرخص في السماع فقيل له : أيؤتى به يوم القيمة في جملة حسناتك أو سيئاتك ؟ فقال : لا في الحسنات و لا في السيئات ؛ لأنه شبيه باللغو ، قال تعالى : (لا يؤَخِذ كم اللَه بِالَلغُو ِفِي أَيُمَانَكمُ ) (البقرة : 225 ، المائدة : 89 .) .
قال الإمام الغزالي : « إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه و لا تصميم ، و المخالفة فيه – مع أنه لا فائدة فيه – لا يؤاخذ به ، فكيف يؤاخذ بالشعر و الرقص » ؟ ! (- إحياء علوم الدين ، كتاب « السماع » ص 1147 – طبعة دار الشعب بمصر).
على أننا نقول : ليس كل غناءٍ لغواً ؛ إنه يأخذ حكمه و فق نية صاحبه ، فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة ، و المزح طاعة ، و النية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة . باطنه الرياء : « إن الله لا ينظر إلى صوركم و أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم » (رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، كتاب « البر و الصلة و الآداب » ، باب : تحريم ظلم المسلم) .
و ننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في « المحلى » ردا على الذين يمنعون الغناء قال : « احتجوا فقالوا : من الحق الغناء أم من غير الحق ؟ و لا سبيل إلى قسم ثالث ، و قد قال الله تعالى : ( فَمَا ذَا بَعُدَ الُحَقِ إلا الضَلال ) يونس( 32) ، فجوابنا – و بالله التوفيق - : أن رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) قال : « إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرىء ما نوى » (متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب ، و هو أول حديث في صحيح البخاري . )
فمن نوى باستماع الغناء ، و من نوى به ترويح نفسه ، ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل ، و ينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن ، و فعله هذا من الحق ، ومن لم ينو طالعة و لا معصية فهو لغو معفو عنه ، كخروج الإنسان إلى بستانه ، و قعوده على باب داره متفرجاً و صبغه ثوبه لا زورديّاً أو أخضر أو غير ذلك ، و مد ساقه و قبضها ، و سائر أفعاله » (المحلى : 9/60) .
( ج ) و استدلوا بحديث : « كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، و تأديبه فرسه ، و رميه عن قوسه » (رواه أصحاب السنن الأربعة ، و فيه اضطراب . قاله الحافظ العراقي في تخريج أحاديث « الإحياء » .) .
و الغناء خارج عن هذه الثلاثة .
و أجاب المجوزون بضعف الحديث ، ولو صح لما كان فيه حجة ، فإن قوله : « فهو باطل » لا يدل على التحريم ، بل يدل على عدم الفائدة . فقد ورد عن أبي الدر داء قوله : « إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أقوى لها على الحق » . على أن الحصر في الثلاثة غير مراد ، فإن التلهي بالنظر إلى الحبشة و هم يرقصون في المسجد النبوي خارج عن تلك الأمور الثلاثة ، و قد ثبت في الصحيح ، و لا شك أن التفرج في البساتين و سماع أصوات الطيور ، و أنواع المداعبات مما يلهو به الرحل ، لا يحرم عليه شيء منها ،و إن جاز و صفه بأنه باطل .
( د ) و استدلوا بالحديث الذي رواه البخاري – معلقاً – عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري – شك من الراوي – عن النبي علنه الصلاة و السلام قال : « ليكو نن قوم من أمتي يستحلون الحر (الحر : بكسر الحاء و تخفيف الراء - : أي الفرج ، و المعنى : يستحلون الزنى . و رواية البخاري : الخزّ.)
والحرير والخمر والمعازف». والمعازف: الملاهي ، أو آلات العزف.
و الحديث و إن كان في صحيح البخاري : إلا أنه من « المعلقات » لا من « المسندات المتصلة » و لذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده و مع التعليق فقد قالوا : إن سنده و متنه لم يسلما من الاضطراب .
و قد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث ، ووصله بالفعل من تسع طرق ، و لكنها جميعاً تدور على راوٍ تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ، ألا و هو : هشام ابن عمار (النظر : تغليق التعليق – للحافظ ابن حجر : 5/17 – 22 ، تحقيق سعيد القزقي – طبع المكتب الإسلامي و دار عمار . ) . و هو – و إن كان خطيب دمشق و مقرئها و محدثها وعالمها ، ووثقه ابن معين و العجلي – فقد قال عنه أبو داود : حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها .
و قال أبو حاتم : صدوق و قد تغير ، فكان كل ما دفع إليه قرأه ، و كل ما لقنه تلقّن . و كذلك قال ابن سيار .
و قال الإمام أحمد : طياش خفيف .
و قال النسائي : لا بأس به ( و هذا ليس بتوثيق مطلق ) .
و رغم دفاع الحافظ الذهبي عنه قال : صدوق مكثر له ما ينكر (- انظر ترجمته في ميزان الاعتدال ( 4/302 ) ترجمة ( 9234 ) ، و في « تهذيب التهذيب » ( 51/11 – 54 ) . ) .
وأنكروا عليه أنه لم يكن يحدّث إلا بأجر !
و مثل هذا لا يقبل حديثه في مواطن النزاع ، و خصوصاً في أمر عمت به البلوى .
و رغم ما في ثبوته من الكلام ،فقي دلالة كلام آخر؛ فكلمة «المعازف » لم يتفق على معناها بالتحديد : ما هو ؟ فقد قيل : الملاهي ،وهذه مجملة ، وقيل : آلات العزف .
ولو سلّمنا بأن معناها : آلات الطرب المعروفة بآلات الموسيقى . فلفظ الحديث المعلّق في البخاري غير صحيح في إفادة حرمة « المعازف » لأن عبارة « يستحلون » - كما ذكر ابن العربي – لها معنيان : أحدهما : يعتقدون أن ذلك حلال ، والثاني : أن تكون مجازاً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور ؛ إذ لو كان المقصود بالاستحلال : المعني الحقيقي ، لكان كفراً ، فإن استحلال الحرام المقطوع به – مثل الخمر والزنى المعبر عنه ب « الحر » كفر بالإجمال .
و لو سلمنا بدلالتها على الحرمة ، فهل يستفاد منها تحريم المجموع المذكور من الحر و الحرير و الخمر و المعازف ، أو كل فرد منها على حدة ؟ و الأول هو الراجح . فإن الحديث في الواقع ينعى على أخلاق طائفة من الناس : انغمسوا في الترف و الليالي الحمراء ، و شرب الخمور . فهم بين خمر نساء ، و لهو و غناء ، و خزّ و حرير . و لذا روي ابن ماجه هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بالفظ : « ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ، يعزف على رؤوسهم بالمعازف و المعنيات ، يخسف الله بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير » ، و كذلك رواه ابن حبان في صحيحه ، و البخاري في تاريخه .
و كل من روي الحديث من طريق غير هشام ابن عمار ، جعل الوعيد على شرب الخمر ، و ما المعازف إلا مكملة و تابعة .
( هـ ) و استدلوا بحديث عائشة : « إن الله تعالى حرم القينة ( أي الجارية 9 و بيعها و ثمنها و تعليمها » .
و الجواب عن ذلك :
أولاً : أن الحديث ضعيف ، و كل ما جاء في تحريم بيع القيان ضعيف (انظر : تضعيف ابن حزم لهذه الأحاديث و تعليقه عليها في « المحلى » : 9/56 – 59 .) .
ثانياً : قال الغزالي : « المراد بالقينة الجارية التي تغني للدجال في مجلس الشرب ، و غناء الأجنبية للفسّاق و من يخاف عليهم الفتنة حرام ، و هم لا يقصدون بالفتنة إلا ما محذور . فأما غناء الجارية لمالكها ، فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث . بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة ، بدليل ما روي في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها (الإحياء ص 1148 .)
ثالثاً : كان هؤلاء القيان المغنيات يكون عنصراً هاماً من نظام الرقيق ، الذي جاء الإسلام بتصفيته تدريجياً ، فلم يكن يتفق و هذه الحكومة : إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع الإسلامي ، فإذا جاء حديث بالنعي على امتلاك « القينة » ، و بيعها ، و المنع منه ، فذلك لهدم ركن من بناء « نظام الرق » العتيد .
( و ) و استدلوا بما روي نافع : أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع أصبعيه في أذنية ،و عدل راحلته عن الطريق ، و هو يقول : يا نافع أستمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتى قلت : لا . فرفع يده و عدل راحلته إلى الطريق ، و قال : « رأيت رسول الله ( صلى الله عليه و آل و سلم ) يسمع زمارة راع فصنع مثل هذا » .
و الحديث قال عنه أبو داود : حديث منكر .
و لو صح لكان حجة على المحرمين لا لهم ، فلو كان سماع المزمار حراماً ما أباح النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) لا بن عمر سماعه ، و لو كان عند ابن عمر حراماً ما أباح لنافع سماعه ، و لأمر عليه السلام بمنع و تغيير هذا المنكر ، فإقرار النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) لا بن الحلال .
و إنما تجنب – عليه السلام – سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا ، كتجنبه الأكل متكئاً ، و أن يبيت عنده دينار أو درهم . . . إلخ .
( ز ) واستدلوا أيضاً بما روي : « إن الغناء ينبت النفاق في القلب » ولم يثبت هذا حديثاً عن نبي ( صلى الله عليه وآل و سلم ) و إنما ثبت قولاً لبعض الصحابة أو التابعين ، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره . فمن الناس من قال – وبخاصة الصوفية - : إن الغناء يرقق القلب ، ويبعث الحزن والندم علي المعصية ، و يهيج الشوق إلى الله تعالى ، و لهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم ، و تنشيط عزائمهم ، و إثارة أشوقهم . قالوا : و هذا أمر لا يعرف إلا بالذوق و التجربة و الممارسة ، و من ذاق عرف ، و ليس الخبر كالعيان !
على أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغني لا للسامع ، إذ كان غرض المغني أن يعرض نفسه على غيره ، و يروج صوته عليه ، و لا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه . و مع هذا قال الغزالي : « و ذلك لا يوجب تحريماً ، فإن لبس الثياب الجميلة ، و ركوب الخيل المهملجة ، و سائر أنواع الزينة ، و لا يطلق القول بتحريم ذلك كله ، فليس السبب في ظهور النفاق في القلب : المعاصي ، بل إن المباحات ، التي هي مواقع نظر الخلق ، أكثر تأثيراً » (الإحياء : كتاب « السماع » ص 1151 . ) .
( ح ) و استدلوا على تحريم غناء المرأة خاصة ، بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة ، و قد كان النساء يسألن رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) في ملاٍ من أصحابه ، و كان الصحابة يذهبون إلى أمهات المؤمنين و يستفتونهن و يفتينهم ويحدثنهم ،و لم يقل أحد : إن هذا من عائشة أو غيرها كشف لعورة يجب أن تستر . مع أن نساء النبي عليهن من التغليظ ما ليس على غير هن.
وقال تعالى : ( وًقلُنَ قَوُلاَ مَّعُروفَاَ) الأحزاب (32 ) .
فإن قالوا : هذا في الحديث العادي لا في الغناء ، قلنا : روي في الصحيحين أن النبي ( صلى الله عليه و آل و سلم ) سمع غناء الجاريتين و لم ينكر عليهما ، و قال لأبي بكر : « دعهما » ، و قد سمع ابن جعفر و غيره من الصحابة و التابعين الجواري يغنين .
( ط ) و استدلوا بحديث الترمذي عن علًّى مرفوعاً : « إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة ، حلّ تها البلاء . . . » ، وذكر منها : « واتخذت القينات و المعازف » ، و الحديث متفق على ضعفه ،فلا حجة فيه .
و الخلاصة
أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح ، أو صريح غير صحيح . و لم يسلم حديث واحد مرفوع إلى رسول الله ( صلي الله عليه وآل وسلم ) يصلح دليلاً للتحريم ، و كل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية و المالكية و الحنابلة و الشافعية .
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب « الأحكام » : لم يصح في التحريم شيء .
و كذا قال الغزالي و ابن النحوي في العمدة .
و قال ابن طاهر في كتابه في « السماع » : لم يصح منها حرف واحد .
و قال ابن حزم : « و لا يصح في هذا الباب شيء ، و كل ما فيه فموضوع . و والله لو أسند جمعية ، أو واحد منه فأكثر ، من طريق الثقات إلى رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) ، لما ترددنا في الأخذ به » (انظر « المحلى » : 9/59 .) .
Tidak ada komentar:
Posting Komentar