Minggu, 21 November 2010

القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ للعلامة الشيخ محمَّد مفتاح بن صالح التجاني الإبراهيمي

القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ
للعلامة الشيخ محمَّد مفتاح بن صالح التجاني الإبراهيمي
بمناسبة حلول شهر المولد النبوي الشريف فإنه يسعدنا أن نقدم لكم كتاب "القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ" للعلامة الشيخ محمد مفتاح ولد صالح التجاني الإبراهيمي -حفظه الله ورعاه-:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بدأ بأخذ العهد لنفسه على أرواح جميع بني آدم في عالم الذَّرِّ وأشهدهم على أنفُسهم واقرَّهم على اعتقاد الربوبية المطلقة له فقال جلّ من قائل: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِِّّيَّاتِهمِْْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) ، وثَنَّى بأخذ الميثاق لنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء الذين هم صفوة خلقه فقال جلّ من قائل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ َءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُــو< أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ( وصلى الله على النبي القائل: « بُعِثْتُ من خير قرون بني آدم قَرنًا قرنًا حتى بُعثتُ من القرن الذي كنتُ فيه» رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

والقائل:« إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» رواه مسلم في صحيحه،عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه .

وبعد فإنّه لما صار كلُّ من هبَّ ودبَّ من جهلة الحشويين يُبدِّع ويُفسِّق جماهير المسلمين المحتفلين بمولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم سَرَّحتُ سَوامَ فكري في أدلة هؤلاء وهؤلاء فاستخلصتُ بعد تحقيق المَناط وسبر وتقسيم الأدلة على الأنماط أنّ حُجةَ المانعين لهذا العمل مبنيةٌ على عمومات ألفاظ وردت في أحاديث ذم البدع والمحدثات كحديث الشيخين عن عائشة مرفوعا: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وحديث البخاري عن ابن مسعود موقوفا ومسلم والنسائي واللفظ له عن جابر مرفوعا« إنّ أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وحديث أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والبغوي والحاكم والطبراني وتمام الرازي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعا « أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبَشِيًّا فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة », وما في معنى هذه الأحاديث وقد جهل هؤلاء أو تجاهلوا أن عموم هذه الأحاديث مُخَصَّصٌ بحديث مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعا « من سنّ في الإسلام سنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن يُنقص من أجورهم شيءٌ ... الحديث» وبحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا يَنقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا ... » قال الإمام النوويُّ في شرح مسلم ج6 ص 465 عند شرحه للحديث الأوّل ما لفظه: قوله صلى الله عليه وسلم «كل بدعة ضلالة» هذا عامٌّ مَخْصُوصٌ والمراد غالب البدع قال أهل اللغة : هي كلُّ شيءٍ عُمِلَ على غير مثالٍ سابقٍ قال العلماء: البدعةُ خمسة أقسام واجبةٌ ومندوبةٌ ومحرَّمةٌ ومكروهةٌ ومباحةٌ، فمن الواجبة: نظمُ أدلَّة المتكلِّمين في الردِّ على المَلاحدة والمبتدعين وشِبْهِ ذلك، ومن المندوبة: تصنيفُ الكُتُبِ وبناءُ المدارس والرُّبَطِ وغير ذلك قال : فإذا عُرِف ما ذكرتُه عُلِمَ أنّ الحديثَ من الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة ويؤكِّدُ ما قلناه قولُ عمر: نعمت البدعة. ولا يمنع كونَ الحديث عامًّا مخصوصًا قولُه كل بدعةٍ مؤكِّدًا ب (كل) بل يدخله التَّخْصِيصُ مع ذلك كقوله تعالى ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ(.

وقال أيضاج7 ص86 عند شرحه للحديث الثاني ما لفظه: وفي هذا الحديث تَخْصِيصُ قوله صلى الله عليه وسلم: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة » وأَنَّ المرادَ به المحدثاتُ الباطلةُ والبدعُ المذمومةُ.
قلت: وممن صرح أيضا بِتَخْصِيصِ عموماتِ هذه الأحاديث الأُبِّيُّ في شرح مسلم ج3 ص23 والسنوسي في الحاشية عليه والسيوطي في تعليقه على سنن النسائي ج3 ص82 والصنعاني في شرح بلوغ المرام ج 2 ص103 وابنُ عَلاَّنَ في شرح رياض الصالحين ج1 ص 439 عند شروحهم لحديث جابر وكذا الكرماني في شرح البخاري ج9 ص154 عند شرحه لحديث ابن مسعود وكذا الزرقاني في شرح الموطإ ج 2 ص238 عند شرحه لقول عمر " نعمت البدعة هذه".

والحاصل: أنّ جمهورَ العلماء اتفقوا على أنّ البدع والمحدثات منقسمةٌ إلى قسمين: ممدوحٌ ومذمومٌ خلافًا لابن تيمية والشاطبي, قال الحافظُ بنُ حجرٍ في فتح الباري ج13 ص254 : قال الشافعي: البدعة بدعتان محمودةٌ ومذمومةٌ فما وافق السنة فهو محمودٌ وما خالفها فهو مذمومٌ. قال ابن حجر: وقد جاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال : المحدثاتُ ضربان ما أُحدث يخالف كتابًا أو سُنةً أو أثَرًا أو إجماعًا فهذه بدعةُ الضلال وما أُحدِث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهذه محدثةٌ غيرُ مذمومة .
قلت: وقد احتجَّ الشافعيُّ لهذا بما في الموطإ وصحيح البخاري من قول عمر رضي الله عنه "نعمت البدعة هذه" قاله ابن رجب الحنبليُّ في جامع العلوم والحكم ص266 وقال المنذريُّ كما في تحفة الأحوذي ج7 ص438 وكذا ابنُ دقيق العيد في شرح الأربعين النووية ص75 وابنُ عَلاَّن في شرح رياض الصالحين ج1 ص415 وابنُ العربي في عارضة الأحوذي ج10 ص147 واللفظ له : اعلموا علَّمكم الله أنّ المُحدَثَ على قسمين مُحدَثٌ ليس له أصلٌ إلا الشَّهوةُ والعملُ بمقتضى الإرادة فهذا باطلٌ قطعًا, ومُحدَثٌ بحمل النظير على النظير فهذه سُنةُ الخلفاء والأئمة الفضلاء, وليس المحدَثُ والبدعةُ مذمومًا لِلَفْظِ مُحدَثٍ وبِدعةٍ ولا لمعناها, فقد قال تعالى: ) مَا يَأْتِــيهِم مِّنْ ذِكْــــرٍ مِّـن رَّ بِّهِمْ مُحْدَثٍ (، وقال عمر: نعمت البدعة هذه، وإنما يُذَمُّ من البدعة ما خالف السنّة ويُذَمُّ من المُحدَثِ ما دعا إلى الضلال. هذه عبارته. وقال ابنُ حجر في الفتح ج13 ص253 عند شرحه لحديث ابن مسعود ما لفظه : والمُحدَثاتُ بفتح الدال جمع مُحدَثةٍ ما أُحْدِثَ وليس له أصلٌ في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعةً وما كان له أصلٌ يدل عليه الشرعُ فليس ببدعةٍ, قال: والمراد بقوله: كل بدعةٍ ضلالةٌ ما أُحْدِثَ ولا دليل له من الشرع بطريقٍ خاصٍّ ولا عامٍّ. وقال في الفتح أيضاً ج 4 ص 254 عند شرحه لقول عمر: " نعمت البدعة هذه" ما لفظه: والتحقيق أنّها إن كانت مما يندرج تحت مُستحسَنٍ في الشرع فهي حسنةٌ وإن كانت مما يندرج تحت مُستقبَحٍ في الشرع فهي مُستقبَحَةٌ وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأقسام الخمسة.
قلت: وبنحو هذا صرح أيضًا كلٌّ من الكرماني ج9 ص154 والعيني ج11 ص126 والقسطلاني ج3 ص426 في شروحهم لصحيح البخاري وكذا السيوطي ج1 ص137 والزرقاني ج1 ص238 في شرحيهما للموطأ وكذا الصنعاني في شرح بلوغ المرام ج 2 ص104 وابن عَلاَّنَ في شرح رياض الصالحين ج1 ص416 والعزُّ بنُ عبد السلام في قواعد الأحكام ج2 ص172 والقرافي في الذخيرة ج13 ص234 والشبرخيتي في شرح الأربعين النووية ص 159؛ 236 .
هذا وقد وقفتُ على مقالٍ للحَدَّادِ المسَمَّى أحمد بن الكوري من موالي قبيلة السادة الشرفاء العلويين الموريتانيين نُشِرَ في جريدة القلم الموريتانية العدد213 الصادر بتاريخ 3 يونيو 2002 ذكَر فيه أنّ ابنَ كثيرٍ ذكَر في تاريخه : البداية والنهاية أن أوَّل من احتفل بالمولد النبوي الفاطميون.
وهذا الذي عزا لتاريخ ابن كثير ليس فيه إطلاقًا, و الفاطميون كانوا يحتفلون بموالد كثيرة ولم يوافقهم أهل السنة على شيء منها إلا على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لكثرة ما اشتمل عليه من معاني تشهد لصحَّتها نصوصُ الشرع.

ومن أوائل من احتفل به من علماء أهل السنة من أهل المشرق الشيخُ الصالحُ عمر المَلاَّ الموصلي المتوفى سنة 570 فقد ذكر الحافظ أبو شامة في حوادث سنة 566 من كتاب الروضتين في أخبار الدولتين أنّ الشيخ عمر المَلاَّ هذا كان رجلاً صالحًا وكان ذا معرفةٍ بأحكام القرآن والأحاديث النبوية وكان العلماءُ والفقهاءُ والملوكُ والأمراءُ يزورونه في زاويته ويتبركون بهِمَّتِهِ ويَتَيَمَّنُونَ ببركته، وكانت له كلَّ سنة دعوةٌ يحتفل بها في أيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر فيها صاحبُ الموصل ويحضر العلماءُ والشعراءُ وينشدون مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت:
قلت: ومن أوائل من احتفل بالمولد من علماء المغرب الفقيهان العالمان الأميران أبو العباس وابنه أبو القاسم العزفيان السَّبْتِيان وهما من الأئمة كما قال صاحب المعيار ج11 ص379. فأما الأول فقد قال عنه ابن حجر في تبصير المنتبه ج1 ص253: كان زاهدًا إمامًا مفنّنًا مُفْتِيًّا ألَّفَ كتاب المولد وجوّده مات سنة 633.
وأمّا الثاني فقد قال عنه الزركلي في الأعلام ج5 ص223: كان فقيها فاضلا, له نظم أكمل الدر المنظم , في مولد النبي المعظّم من تأليف أبيه أبى العباس بن أحمد. مات سنة 677.
قلت: وقد ذكر السيوطي في الحاوي للفتاوي ج1 ص 222: أن أوَّل من أحدث الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف صاحبُ إِرْبَلْ الملك المظفر أبو سعيد كُوكْبُرِي المتوفى سنة 633.
فإن كان يعني بذلك أول من احتفل به من الملوك السُّنِّيينَ فذلك مسلَّمٌ له وإن كان يعني بذلك أول من أحتفل به مطلقا أو من احتفل به من علماء المسلمين فقد ورد في فتاوي الأزهر ج8 ص 255: عن المفتي الشيخ عطية صقر: أنّه كان يُحتفَل به بمصر فيما قبل سنة 488 . وتقدم أيضا أنّ الشيخ عمر المَلاَّ كان يحتفل به بالموصل قبل وفاته في سنة 570, وكُوكْبُرِي هذا إنما كان يحتفل به في مدينة إرْبَلْ بعد أن ولاَّه عليها صلاح الدين الأيوبي سنة 586 أي بعد وفاة الشيخ عمرا لمَلاَّ بستة عشر سنة.
هذا وكنتُ قد نفيتُ في نُسخةٍ سابقةٍ من هذا البحثِ كونَ الفاطميين هُمْ أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف وذكرتُ أنَّ أولَ من احتفل به هو الشيخ عمر المَلاَّ ثمَّ وقفتُ الآنَ على ما ورد في فتوى الأزهر السابقة من أنّه كان يُحتفَل به بمصر فيما قبل سنة 488، فأثبتُّهُ هنا، وحذفْتُ النَّفْيَ المذكور، فعلى من لديه نُسخةٌ قديمةٌ من هذا البحث أن يَرجِعَ إلى هذه النُّسخةِ فَهْيَ النُّسخةُ الصَّحيحةُ المُعتَمَدَةُ.
ثم إنّ عمل المولد هذا وإن لم يكن قد عُمِلَ به في القرون المُزَكَّّاةِ فإنَّ جمهورَ المتأخرين من علماء الأمة قد دأب على العمل به واستحسانه وحصل شبهُ إجماع عليه من غير نكيرٍ مدَّةً من الزمن حتى جاء ابنُ تيمية والفاكهانيُّ وابنُ الحاج في القرن السابع الهجري فأنكر الأوَّلانِ أصلَ عمله وأنكر الثالثُ أُمورًا رآها تَحدُثُ في المولد في زمنه ولم يُنكِرْ أصلَ عمله.
فأما ابن تيمية فإن العلماء لم يُعِيرُوا اهتمامًا لإنكاره عمل المولد لما هو معروف به عندهم من المُجازَفاتِ.
وأمَّا الفاكهانيُّ فقد كتب في منعه فتوى قصيرةً لا تبلغ كُرَّاستين وهي عاريةٌ من الدليل الشرعي المُتَنَزِّلِ على القصد حيث لم يذكر فيها من القرآن إلا آية ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) وآية (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ولم يذكر فيها من الحديث إلا حديث « بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعود غريبًا», ولا يخفى أنّ هاتين الآتين والحديث لا دليل في شيء منهم على منع عمل المولد, ولو وجد الفاكهانيُّ دليلاًً شرعِيًّا مُتَنَزِّلاً على قصده لأتى به لأنّه في مقام الاحتجاج على المنع وما سوى هاتين الآتين والحديث من كلامه مجرد آراء له غير واردة في محلها وقد أتقن السيوطي بيان بطلانها حيث ساق الفتوى المذكورة بحروفها في الحاوي للفتاوى ج1ص223-224 ثمّ ردها حرفا حرفا وممَّا قال في ردِّهَا: أمّا قولُه " لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة" فيقال عليه: نفيُ العلم لا يلزم منه نفيُ الوجود وقد استخرج له إمامُ الحُفَّاظِ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلاً من السنة واستخرجتُ أنا له أصلاً ثانيا وسيأتي ذكرهما بعد هذا. وقوله: " بل هو بدعةٌ أحدثها البطالون إلى قوله ولا العلماء المتدينون" يقال عليه : قد تقدم أنّه أحدثه ملكٌ عادلٌ عالمٌ وقصد به التقرب إلى الله تعالى وحضر عنده فيه العلماءُ والصلحاءُ من غير نكيرٍ منهم وارتضاه ابنُ دِحية وصنف له من أجله كتابًا, فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه.
قلت: وقد قدمـتُ أنا أيضًا أنّ الملك المذكور سبقه إلى هذا العمل من أهل السنة رجلٌ صالحٌ عارفٌ بأحكام القرآن والحديث وحضر عنده فيه العلماءُ من غير نكيرٍ منهم , وكان ذلك تحت إمرةِ مَلِكٍ سُنِّيٍّ مُتَّبِعٍ للآثار النبوية صحيحِ الاعتقاد واقفٍ عند حدود الشرع
.
وأما ابن الحاج فقد أنكر أمورًا رآها تَحدُث في الاحتفال بالمولد في زمنه ولم يُنكِرْ أصلَ عمله فقد قال في المدخل ج2 ص2-3 بعد أن أنكر استعمال آلة الطرب في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ما نصه : فكان يجبُ أن يُزاد فيه ـ يعنى شهر المولد ـ من العبادات والخير شُكرًا للمولى سبحانه وتعالى على ما أولانا من هذه النِّعَم العظيمة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم بأمته ورفقه بهم لأنَّه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يُفرَض على أمّته رحمةً منه بهم كما وصفه المولى سبحانه وتعالى في كتابه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ), لكن أشار صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله صلى الله عليه وسلم للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين فقال له صلى الله عليه وسلم: «ذلك يوم ولدت فيه», فتشريف هذا اليوم متضمِّنٌ لتشريف هذا الشهر الذي وُلد فيه فينبغي أن نحترمَه حق الاحترام ونُفضِّله بما فضَّل الله به الأشهر الفاضلة وهذا منها لقوله صلى الله عليه وسلم أنا سيِّدُ ولد آدم ولا فخر ولقوله صلى الله عليه وسلم آدمُ ومن دونه تحت لوائي.
قال السيوطي في الحاوي للفتاوي ج1 ص228 بعد أن نقل الكلامَ المتقدِّمَ وغيرَه من كلام ابن الحاج ما نصُّه : وحاصلُ ما ذكره أنَّه لم يذُمَّ المولدَ بل ذَمَّ ما يحتوى عليه من المحرَّماتِ والمُنكَراتِ, وأولُ كلامه صريحٌ في أنَّه ينبغي أن يُخَصَّ هذا الشهرُ بزيادة فعل البرِّ وكثرةِ الخيراتِ والصدقاتِ وغيرِ ذلك من وجوه القُرُباتِ, وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه, فإنَّه ليس فيه شيءٌ سوى قراء ة القرآن وإطعام الطعام وذلك خيرٌ وبِرٌّ وقُربةٌ, وأمّا قوله آخِرًا إنّه بدعةٌ فإمَّا أن يكون مُناقِضًا لما تقدم أو يُحمَل على أنّه بدعةٌ حسنةٌ كما تقدَّم تقريره في صدر الكتاب, أو يُحمَل على أنَّ فعلَ ذلك خيرٌ والبدعةُ منه نِيَّةُ المولد كما أشار إليه بقوله: فهو بدعةٌ بنفس نيَّته فقط، وبقوله: ولم يُنقل عن أحد منهم أنَّه نوى المولد, فظاهرُ هذا الكلام أنَّه كره أن ينوى به المولدَ فَقَطْ ولم يَكرَهْ عمل الطعام ودُعاء الإخوان إليه, وهذا إذا حُقِّقَ النظرُ لا يجتمع مع أول كلامه لأنَّه حثَّ فيه على زيادة فعل البِرِّ, وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى, إِذْ أوجد في هذا الشهر الشريف سيدَ المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا هو معنى نيَّة المولد فكيف يَذُمَّ هذا القدر مع الحثِّ عليه أوَّلاً, وأمَّا مجرَّد فعل البِرِّ وما ذكر معه من غير نيَّة أصلاً فإنَّه لا يكاد يُتَصَوَّرُ، ولو تُصُوِّرَ لم يكن عبادةً ولا ثوابَ فيه, إذ لا عمل إلا بنيَّةٍ، ولا نيَّةَ هنا إلاَّ الشكرُ لله تعالى على وِلادةِ هذا النبي الكريم في هذا الشهر الشريف, وهذا معنى نِيَّةِ المولد فهي نِيَّةٌ مُستحسَنةٌ بلا شكٍّ فتأمَّلْ.
قلت: ومن الأكاذيب الواضحة ما قاله صاحبُ المقال المتقدِّمِ في جريدة القلم في عددها المذكور ولفظه: قال أبو الوليد الباجي إمام المالكية: "لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتابٍ ولا سنّةٍ ولا ينقل عمله عن أحدٍ من علماء الأمّة الذين هم القدوة في الدين بل هذا بدعةٌ أحدثها البطّالون".
قلت: هذا ليس من كلام الباجي إطلاقًا وإنّما هو من كلام الفاكهاني المذكور آنفا دلَّس فيه هذا الجاهل المتنطع وتعمَّد عزوَهُ للباجي كَذِبًا لكي يعطيه دَفْعًا أكبرَ عند السامع حيثُ إنَّ الباجي إمامٌ حافظٌ فقيهٌ أُصوليٌّ جدليٌّ و الفاكهانيُّ فقيهٌ مشارِكٌ متأخّرٌ عن الباجي بنحو قرنين ونصفٍ من الزمن. ثمّ إنّ هذا المتنطع مع تدليسه في هذا الكلام تصرَّف فيه وحذف منه البعض وهو قول الفاكهاني " المتمسكون بآثار المتقدمين" بعد قوله: " ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين".
وأما حُجَّةُ القائمين بإحياء ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم من القرآن فمنها: قوله تعالى ( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أ نــبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) وقوله تعالى ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَ يَّــمِ اللَّهِ ) وقوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وقوله تعالى: ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْر مِمَّا يَجْمَعُونَ ) وقوله تعالى: ( وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) وقوله تعالى: ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) وقوله تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).
ففي الآية الأولى: دليلٌ على أنَّ الاستماع لقصص أنباء الرسل يثبِّتُ اللهُ به فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم فنكون نحن أحوج إلى تثبيت أفئدتنا على الإيمان به وترسيخ محبته في قلوبنا بما يُقَصُّ علينا في موسم مولده المبارك من معجزاته وفضائله صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية الثانية: الأمر بتذكير المؤمنين بأيام الله " وأيامُ الله نعماؤُهُ وبلاؤُهُ" كما في الصحيحين عن ابن عبّاس مرفوعًا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظمُ نعمةٍ أنعم الله بها على المؤمنين، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ )، ومع ذلك هو البلاء على الكافرين من طريق النظر لأنّ الله جعل تعذيبَهم معلَّقًا على بعثته صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وفي الآية الثالثة: دليل على أنّه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقد أخرج الحاكم في المستدرك وصحّح إسناده وأقرّه الذهبي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «يا أيّها الناس إنّما أنا رحمةٌ مهداةٌ».
وفي الآية الرابعة: الأمر بالفرح بفضل الله وبرحمته فيكون الفرح بمولده صلى الله عليه وسلم مأمورًا به شرعًا بهذا الاعتبار لأنّه فضلٌ من الله على المؤمنين ورحمةٌ منه لهم وقد جعل الله ظهور ما أمده الله به من المعجزاتِ في عالَمِ الغيب مَنوطًا بظهور جسمه الشريف في عالَمِ الشهادة، ولا شكَّ أنَّ الفرح بمعجزةٍ واحدةٍ على انفرادها من أحسن مقاصد الشرع لدلالته على كمال الإيمان بمن ظهرت على يديه من الأنبياء فكيف بنا إن كان فرحُنا بظهور جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم الجامع لجميع المعجزات المتفرقة في الأنبياء.
وفي الآية الخامسة: أنَّ عيسى عليه السلام بشَّر به صلى الله عليه وسلم، وقد جاء فيما رواه أحمد في المسند ج4 ص127 والطبراني والبزَّار وابن حبَّان وصحّحه والبيهقي في الدلائل والحاكم في المستدرك ج2 ص600 وصحّح إسناده وأقرّه الذهبي كلّهم عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «إني عند الله خاتم النبيئين وإنّ آدم لمنجدلٌ في طينته وسأخبركم عن ذلك دعوةُ أبي إبراهيم وبشارةُ عيسى بي ورؤيا أمِّي التي رأت وكذلك أمّهات النبيئين يرين وإنَّ أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورًا أضاء ت له قصورُ الشام».
وفي الآيتين السادسة والسابعة: أنّ الله سلَّم على بعض أنبيائه في أيَّام مواليدهم وأيَّام موتهم وأيَّام بعثهم وما ذلك إلاّ من تعظيمه لشأنهم في تلك الأحوال وتعظيمه لشأن تلك الأيام ويدل على صحة هذا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تكلَّم على فضائل يوم الجمعة بدأ بذكر فضيلة خَلْقِ آدم فيه -كما في صحيح مسلم- فقال: «أفضلُ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خُلقَ آدم »، فدلَّ هذا الحديثُ على أنَّ أفضليةَ يومِ الجُمُعةِ حصلَتْ له بالدرجة الأولى بخَلْقِ آدم فيه.
وفي صحيح مسلم أيضا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال « فيه ولدت وفيه أُنزِلَ علي »، فبدأ بذكر فضيلة مولده صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم ثمّ ثنَّى بذكر فضيلة نزول القرآن عليه فيه وفي هذا الحديث أنّ الله فضَّلَ يوم الاثنين لكونه يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اختَصَّ يومَ مولده ببعض العباداتِ وقد أخرج الحاكم في مستدركه وصحّحه ووافقه الذهبي أنَّ العبَّاسَ بنَ عبد المطلب رضي الله عنه امتدح النبي صلى الله عليه وسلم بقطعة قال فيها:
وأنت لَمَّا وُلدت أشرقت الأَرْ= = ض وضاء ت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي الـنـْ = = نُـور وسُبْلِ الرشاد نخترق.
وقال حسان بن ثابت في إحدى قصائده التي يرثي بها النبي صلى الله عليه وسلم كما في تاريخ بن كثير ج5 ص280:
وبالجمرة الكبرى له ثَمّ أَوْحَشَتْ = = ديارٌ وعَرْ صاتٌ وربعٌ ومولدُ
وفي دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص 120 والدلائل لأبي نعيم ص96 وسيرة بن هشام ج1 ص11 وتاريخ الطبري ج3 ص131 أنَّّه صلى الله عليه وسلم لمَّا وُلِدَ ارتجَّ إيوانُ كسرى وسقطت منه أربعَ عشرةَ شُرْفَةً من شُرَفِهِ وخمدت نارُ فارسَ ولم تخمد قبل ذلك بألفِ عامٍ وغاضت بحيرةُ سَاوَةَ.
وقال الحافظ ابن كثير في كتابه مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ص 52 بعد كلامٍ مانصّه : والمقصود الآن أنّ ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ليلةً شريفةً عظيمةً مباركةً سعيدةً على المؤمنين طاهرةً ظاهرةَ الأنوار جليلةَ المِقدَارِ أبْرَزَ الله فيها الجوهرةَ المصونةَ المكنونةَ التي لم تزل أنوارُها مُنتقِلَةً من كل صُلبٍ شريفٍ إلى بطنٍ طاهرٍ عفيفٍ من نكاحٍ لا من سِفاحٍ من لَدُنْ آدمَ أبي البشر إلى عبد الله بن عبد المطلب ومنه إلى آمنةَ بنت وهبٍ الزهرية فولدته في هذه الليلة الشريفة المنيفة فظهر له من الأنوار الحسِّيَّةِ والمعنوية ما بَهَرَ العقولَ والأبصارَ كما شهدت بذلك الأحاديثُ والأخبارُ عند العلماء الأخيار، هذه عبارته.
وأمّا أدلَّةُ عمل المولد الشريف من السنة فمنها ما ذكره السيوطي في الحاوي للفتاوي ج1ص229 -230، فقال ما لفظه: وقد سُئل شيخُ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصُّه: أصلُ عمل المولد بدعةٌ لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى ولكنَّها مع ذلك قد اشتملت على محاسنَ وضدَّها فمن تحرَّى المحاسن وتجنَّبَ ضِدَّهَا كان بدعةً حسنةً وإلا فلا، قال وقد ظهر لي تخريجُها على أصلٍ ثابتٍ وهو ما ثبت في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قدِمَ المدينة فوجد اليهودَ يصومون يومَ عاشوراءَ فسألهم، فقالوا: "هو يومٌ أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى".
فيُستفادُ منه فعلُ الشكر لله على ما منَّ به في يومٍ معيَّنٍ من إسداء نعمةٍ أو دفع نقمةٍ ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كلِّ سنةٍ، والشكرُ لله يحصُـلُ بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيُّ نعمةٍ أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ نبيّ الرحمة في ذلك اليوم؟ وعلى هذا فينبغي أن يُتحرى اليومُ بعينه حتى يُطابق قِصَّةَ موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يُلاحظ ذلك لا يبالي بعملِ المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قومٌ فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلَّق بأصل عمله.
وأما ما يُعمَلُ فيه فينبغي أن يُقتصَر فيه على ما يُفْهِمُ الشكرَ لله تعالى من نحو ما تقدَّم ذكرُه من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيءٍ من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعملِ للآخرة، وأما ما يَتْبعُ ذلك من السَّماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيُمنَعُ وكذا ما كان خلاف الأولى. هذه عبارة الحافظ ابن حجر ثمّ قال: السيوطي عقبها:
" قلت: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة مع أنَّه قد ورد أنَّ جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيُجعل ذلك على أنَّ الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارٌ للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعٌ لأمَّته كما كان يصلِّي على نفسه لذلك فَيُستَحبُّ لنا أيضًا إظهارُ الشكر بمولده بالاجتماعِ وإطعامِ الطعامِ ونحوِ ذلك من وجوهِ القُرُباتِ وإظهار المَسرَّاتِ، هذه عبارة السيوطي.
قلت: وقد ظهر لي أنا تخريجُ عملِ المولد على أصلٍ ثالثٍ وهو ما ثبت في الصحيحين: " عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قُباءَ كل سَبْتٍ راكبًا وماشيًّا". قال ابن حجر في الفتح ج3 ص69 ما لفظه: وفي هذا الحديث على اختلاف طرقه دلالةٌ على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك.

وقال القسطلاني في المواهب اللدنية ج1 ص261 ما لفظه: ولا زال أهلُ الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه الصلاة والسلام ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويُظهرون السرور ويزيدون في المَبرَّاتِ ويعتنون بقراء ة مولده الكريم ويَظْهَرُ عليهم من بركاته كلُّ فضلٍ عميمٍ.
هذا وبعضُ المتنطِّعين اليوم يقولون إنّ من احتفل بميلاده صلى الله عليه وسلم يوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل فقد احتفل بتاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم أيضا.
والحقيقة أن القول باتِّفاق تاريخ المولد والوفاة قولٌ باطلٌ ؛ بل تاريخهما متغايرٌ تغايرًا يُثبته ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ ، قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عًلًيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، قال عمر: « قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة».
قلت: وبناء على هذا الحديث الصّحيح : فإنه لا شك في نزول الآية الكريمة يوم:( الجمعة 9 من ذي الحجة)، كما أنّه لا خلاف عند العلماء في وفاته صلى الله عليه وسلم ( في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول)، وكما لا خلاف حسابيًّا في استحالة موافقة(12 ربيع الأول) ليوم الاثنين(يوم وفاته صلى الله عليه وسلم )، لأن أيَّام الاثنين الأوائل من ربيع الأوّل الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم توافق(6 و13) منه على افتراض كمال كلٍّ من شهر ذي الحجة ومحرم وصفر:(30 يوما)؛ وتوافق(7 و14) منه، على افتراض كمال اثنين من هذه الأشهر، وتوافق(1 و8 و15) منه، على افتراض كمال أحدها. وتوافق (2 و9 و16) منه، على افتراض نقصان الأشهر الثلاثة جميعا: (29 يوما).
وعليه يستحيل أن يكون ثاني عشر ربيع الأول من العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم غير يوم الأحد أو السبت أو الجمعة أو الخميس. ولا توجد صورة أخرى تحتمل كونه يوم الاثنين.
قلت: وبجميع ما تقدم يتبين بجلاءٍ لكلِّ منصفٍ يعلم مقاصد الشرع أنّ عمل المولد الشريف مخرَّجٌ على أُصولٍ ثابتةٍ من كتاب الله وصحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنّ إحياء ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ويومِها كلَّ سنةٍ بصالح الأعمال شكرًا لله على نعمته ببروز جسم سيِّدِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مع مُراعاةِ الحدود الشرعية في هذا العمل من أفضل القُرُبَاتِ لما فيه من التَّعرُّضِ لنفحاتِ الرَّبِّ في فاضلِ الأوقاتِ، ولكون هذا العمل مشتمل على كثير من المعاني التي نصّت عليها نصوص الشّريعة وشهدت بصحّتها؛ مثل: ذكر الله تعالى وتلاوة ما تيسّر من القرآن والدّعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , وذكر بعض معجزاته وصفاته وفضائله صلى الله عليه وسلم؛ وإنشاء وإنشاد ما تيسر من مدائحه صلى الله عليه وسلم. وإنفاق ما تيسّر من المال، فهذه الأعمال مطلوبةٌ شرعاً في أغلب أوقات كلّ مسلمٍ ولا يمكن بحالٍ من الأحوال استثناء زمن مولده صلى الله عليه وسلم من أوقات مطلوبيتها، ثمّ إنّ العلماء الذين نصروا عمل المولد واستنبطوا له الأصول الشرعية الّتي ينبني عليها، قد فرّقوا بين حكم أصل عمله وحكم المخالفات الّتي قد تقع في بعض الأماكن أثناء الاحتفال به، فاستحسنوا أصل العمل واستصوبوه وردّوا المخالفات الشّرعية ومنعوها. فلا وجه إذًا لإنكار إظهار البشر والاحتفاء والاحتفال به في ليلة مولده صلى الله عليه وسلم التي أجمع العلماء على فضلها وعلى استحباب رصد اللّيالي والأيّام الفاضلة من كلّ سنةٍ للإكثار من أعمال الخير فيها.
وقد رجّح كثيرٌ من العلماء كونَها أفضل من ليلة القدر كما ذكر المفتي الشيخ: عطية صقر في فتاوى الأزهر (ج10 ص189). وممن نصّ على ذالك ابنُ مرزوق في جنا الجنّتين في فضل اللّيلتين كما في المعيار(ج11، ص280). وكذا الشّرواني في حاشيته على تحفة المحتاج (ج2 ص405) وإسماعيل حقّي في روح البيان في تفسير القران( ج 6 ص 340) وغيرهم. وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق.

تمَّ تأليفُ: القول المبينْ في حُكْمِ عملِ مَولدِ سيِّدِ المُرسَلِينْ
من إنشاء وإملاء: محمَّد مفتاح بن صالح التجاني الإبراهيمي.
من موقع التيسير

Tidak ada komentar:

Posting Komentar